تتعمق هذه الدراسة في تحليل فرضية الانزلاق نحو مواجهة عسكرية شاملة بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية في إيران، وتبحث في مدى قدرة مثل هذه الحرب، إن وقعت، على إحداث تغيير جذري في خارطة القوى والنفوذ في الشرق الأوسط. انطلاقاً من محاكاة لسيناريو عسكري افتراضي أُطلق عليه “الأسد الصاعد”، تتجاوز الدراسة الوصف السطحي للأحداث لتغوص في تحليل الجذور العقائدية للصراع، ودراسة بنية القوة العسكرية لكلا الخصمين، وتفكيك شبكة التداعيات المعقدة على الصعيدين الإقليمي والدولي. بالاعتماد على منهجية التحليل الاستراتيجي المقارن، وبتوظيف بيانات ومعطيات من مصادر مفتوحة ودراسات متخصصة صادرة عن معاهد فكرية دولية، تقدم هذه الدراسة رؤية شاملة للأبعاد المختلفة للأزمة. وتخلص الدراسة إلى أن
“توازن الرعب” القائم على التكلفة الباهظة للحرب لا يزال يشكل المانع الأبرز، لكن هشاشة هذا التوازن تجعل من احتمالية التصعيد الناجم عن سوء التقدير خطراً حقيقياً وقائماً، قادراً على إشعال حريق هائل لا يمكن التنبؤ بحدود امتداده.
1. مقدمة: تفكك قواعد الاشتباك القديمة
عقودٌ طويلة مرت والشرق الأوسط يرقب الصراع الإسرائيلي الإيراني وهو يتخذ شكلاً فريداً من نوعه؛ “حرب ظل” تدور رحاها في الساحات البعيدة، من الفضاء الرقمي وعملياته السيبرانية المعقدة، إلى ضربات جوية دقيقة في العمق السوري استهدفت الوجود العسكري الإيراني، مروراً بعمليات استخباراتية نوعية أدت إلى اغتيال علماء بارزين في قلب إيران. هذه “المعركة بين الحروب”، كما أطلقت عليها الدوائر الإسرائيلية، كانت تهدف إلى تقليم أظافر إيران وإبطاء برامجها الاستراتيجية دون كسر قواعد الردع بشكل كامل.
لكن السيناريو المطروح في “عملية الأسد الصاعد” يمثل تحولاً جذرياً وانتقالاً من هذه الحالة “الرمادية” إلى المواجهة الصريحة. لم يعد الحديث عن ضربة محدودة أو عملية سرية، بل عن حملة جوية شاملة تستهدف شل قدرات الدولة الإيرانية. هنا، تبرز الإشكالية المحورية لهذه الدراسة: هل وصلت مبررات الصراع ودوافعه لدى الطرفين إلى نقطة اللاعودة، حيث تآكلت آليات الردع القديمة وباتت الحرب الشاملة خياراً مقبولاً ضمن الحسابات الاستراتيجية، أم أن ميزان الخسائر المحتملة لا يزال كفيلاً بكبح جماح الطرفين؟
للإجابة على هذا التساؤل المعقد، ستتبع هذه الدراسة منهجية تحليلية متعددة الأبعاد، تبدأ بتشريح العقائد العسكرية لكلا الطرفين، ثم تنتقل إلى تقييم مقارن لموازين القوى المادية وغير المادية، وتختتم باستشراف خريطة التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية التي قد تنجم عن مثل هذا الصدام الكارثي.
2. تشريح العقائد العسكرية: صراع الإرادات بين الإجهاض الوقائي والردع غير المتماثل
إن فهم أبعاد أي حرب محتملة يبدأ من فهم الفلسفة القتالية التي تحكم قرارات كل طرف.
العقيدة الإسرائيلية: هاجس الوجود ومبدأ الضربة الاستباقية
لا يمكن فهم السلوك الاستراتيجي الإسرائيلي دون إدراك عمق “هاجس الوجود” الذي يشكل نواته الصلبة. فنظراً لغياب العمق الجغرافي الاستراتيجي، بنت إسرائيل عقيدتها الدفاعية على مبدأ “الإجهاض الوقائي” أو ما يعرف بالضربة الاستباقية الحاسمة، والذي يعني ببساطة نقل المعركة إلى أرض الخصم وتدمير قدراته قبل أن يتمكن من استخدامها. هذا المبدأ الذي طبق بنجاح في ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، والسوري عام 2007، يرى في البرنامج النووي الإيراني المقترن بترسانة صاروخية ضخمة وشبكة نفوذ إقليمية تهديداً وجودياً لا يمكن التعايش معه.
ولتحقيق ذلك، عملت إسرائيل على ضمان “التفوق العسكري النوعي”، وهو ليس مجرد تفوق في عدد الدبابات أو الطائرات، بل هو تفوق في التكنولوجيا والكفاءة والقدرة على إدارة معركة حديثة. يتجلى هذا التفوق في امتلاكها لأحدث أجيال المقاتلات الشبحية (مثل طائرات “أف-35”)، ومنظومات دفاع جوي متعددة الطبقات (القبة الحديدية، مقلاع داوود، السهم)، وقدرات استخباراتية ورقمية تعد من بين الأكثر تقدماً في العالم. الهجوم الشامل في هذا الإطار لا يُنظر إليه كعدوان، بل كعملية جراحية حتمية لمنع خطر أكبر، تهدف إلى إعادة إيران “إلى العصر الحجري” عسكرياً وتكنولوجياً. لكن هذه العقيدة تصطدم بنقاط ضعف بنيوية، أبرزها حساسية المجتمع الإسرائيلي العالية للخسائر البشرية، وتركّز السكان والمراكز الحيوية في مساحة جغرافية ضيقة، وهي نقاط الضعف التي صممت الاستراتيجية الإيرانية لاستهدافها بدقة.
العقيدة الإيرانية: الصبر الاستراتيجي وفن الحرب غير المتماثلة
في المقابل، تدرك القيادة الإيرانية تمام الإدراك استحالة التفوق على إسرائيل في حرب تقليدية متكافئة. لذا، طورت على مدى أربعة عقود عقيدة “الردع غير المتماثل”، التي تقوم على تحييد نقاط قوة الخصم عبر استغلال نقاط ضعفه. ترتكز هذه العقيدة على عدة أعمدة رئيسية:
الترسانة الصاروخية والمسيرات: استثمرت إيران بشكل هائل في تطوير وتوسيع ترسانتها من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيرة الانتحارية. الهدف ليس تحقيق نصر عسكري كاسح، بل ضمان القدرة على إيقاع “ألم لا يطاق” بالعمق الإسرائيلي، عبر إطلاق آلاف المقذوفات بشكل متزامن لإرباك أنظمة الدفاع الجوي وتوجيه ضربات موجعة للبنية التحتية والمراكز السكانية.
“محور المقاومة” كأداة استراتيجية: يعد هذا المحور درة تاج الاستراتيجية الإيرانية. فهو ليس مجرد تحالف، بل هو امتداد عضوي للقدرة العسكرية الإيرانية خارج حدودها. لكل فصيل في هذا المحور دور محدد: حزب الله في لبنان هو قوة الردع الاستراتيجي الرئيسية القادرة على شل شمال إسرائيل، والميليشيات في العراق وسوريا تشكل جسراً برياً ومنصة هجوم، والحوثيون في اليمن يمثلون تهديداً مباشراً للملاحة البحرية في البحر الأحمر. إن تفعيل هذا المحور يعني تحويل أي حرب مع إسرائيل إلى كابوس “حرب متعددة الجبهات” تستنزف مواردها وتشتت جيشها.
الغموض النووي والصبر الاستراتيجي: تتقن إيران لعبة “الغموض الاستراتيجي” فيما يتعلق ببرنامجها النووي، مستخدمة إياه كورقة ضغط وتفاوض. كما تتبنى سياسة “الصبر الاستراتيجي”، التي تعني تحمل الضربات المحدودة والرد في الزمان والمكان المناسبين، وتجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة لا تكون مستعدة لها بالكامل.
3. التداعيات الجيوسياسية والإقليمية: زلزال يعيد تشكيل المنطقة
الحرب الشاملة، إن اندلعت، لن تبقى حبيسة الحدود الإسرائيلية الإيرانية، بل ستطلق العنان لسلسلة من التفاعلات التي ستغير وجه المنطقة لعقود قادمة.
الانفجار الإقليمي الحتمي: أولى التداعيات وأخطرها هي التحول الفوري إلى حرب إقليمية. ستتلقى قيادة حزب الله في لبنان الأمر بفتح جبهة الشمال، وستحول جنوب لبنان إلى جحيم من النيران الصاروخية. كما ستتحرك الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا لاستهداف القواعد التي قد تستخدمها إسرائيل أو حلفاؤها، وستتصاعد هجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة لم تختبرها من قبل: حرب على أربع أو خمس جبهات متزامنة.
معضلة دول الخليج العربي: ستكون دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديداً السعودية والإمارات، في قلب العاصفة. هذه الدول التي استثمرت مئات المليارات في مشاريع اقتصادية ضخمة (كرؤية 2030) لتحويل اقتصاداتها بعيداً عن النفط، ستجد نفسها أمام خطر شلل اقتصادي كامل. فمضيق هرمز، الذي يمر عبره جزء ضخم من تجارة النفط العالمية، سيصبح منطقة عسكرية مغلقة. أي صاروخ أو مسيرة تسقط على منشأة نفطية أو محطة تحلية مياه أو مدينة كبرى سيؤدي إلى كارثة. اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها بعض هذه الدول مع إسرائيل ستواجه ضغطاً شعبياً وسياسياً هائلاً، وقد تجد هذه الحكومات نفسها مضطرة لتجميدها أو إلغائها لتجنب غضب الشارع وتفادي الاستهداف المباشر من إيران ووكلائها.
الأردن ومصر: أضرار جانبية جسيمة: سيجد الأردن، الدولة العازلة ذات الأهمية الاستراتيجية، نفسه في وضع لا يحسد عليه، محاصراً بين نار الصراع وموجات لجوء محتملة وضغوط هائلة على اقتصاده الهش. أما مصر، فستراقب بقلق بالغ أي تهديد لحرية الملاحة في قناة السويس، وستسعى للعب دور الوسيط، لكن قدرتها على التأثير في صراع بهذا الحجم ستكون محدودة للغاية.
4. دور القوى الدولية: بين محاولة الاحتواء وخطر التورط
الولايات المتحدة الأمريكية ومعضلتها الكبرى: ستجد واشنطن نفسها أمام خيارين أحلاهما مر. فالتزامها التاريخي بأمن إسرائيل سيفرض عليها تقديم دعم عسكري ولوجستي واستخباري واسع النطاق، بما في ذلك تزويد إسرائيل بالذخائر الذكية والقنابل الخارقة للتحصينات اللازمة لاختراق المنشآت الإيرانية المحصنة. لكن أي تورط أمريكي مباشر في الهجوم سيجعل القوات والمصالح الأمريكية في جميع أنحاء المنطقة هدفاً مشروعاً للانتقام الإيراني، وهو ما قد يجر الولايات المتحدة إلى حرب واسعة لا تريدها في وقت ينصب فيه تركيزها الاستراتيجي على مواجهة الصين. قد يكون الهدف الإسرائيلي الخفي من شن الهجوم هو إجبار الولايات المتحدة على الدخول في الصراع، إدراكاً بأنها لا تستطيع حسم المعركة وحدها.
روسيا والصين: المستفيدون والمترقبون: ستكون روسيا من أكبر المستفيدين من هذه الفوضى. فالحرب ستشغل الولايات المتحدة بالكامل عن الساحة الأوروبية، وسترفع أسعار النفط والغاز بشكل يخدم الاقتصاد الروسي. أما الصين، فستكون من أكبر المتضررين اقتصادياً بسبب اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، لكنها ستستغل الفرصة لتقديم نفسها كقوة سلام بديلة للدبلوماسية الغربية، وستعمل على تعزيز نفوذها الاقتصادي في مرحلة إعادة الإعمار لاحقاً.
5. خلاصة واستنتاج: توازن الرعب على حافة الانهيار
بالعودة إلى السؤال المحوري للدراسة، يمكننا استخلاص النتائج التالية:
إن الحرب الشاملة بين إسرائيل وإيران ليست حتمية، بل هي خيار كارثي يدرك الطرفان تكاليفه المدمرة. “توازن الرعب” القائم على قدرة كل طرف على إلحاق أذى لا يطاق بالآخر لا يزال هو الضابط الرئيسي لإيقاع الصراع. فما قد تحققه إسرائيل من مكاسب تكتيكية بتدمير منشآت إيرانية، ستقابله بخسائر استراتيجية فادحة في جبهتها الداخلية واقتصادها ومكانتها الدولية. وما قد تحققه إيران من انتقام موجع، ستقابله بخطر تدمير برنامجها الاستراتيجي الذي استثمرت فيه لعقود، وربما الدخول في عزلة دولية أشد قسوة.
ولكن، وهذا هو الخطر الحقيقي، إن هذا التوازن هش للغاية. فالمنطقة تعج بمسببات الانفجار، من سباق التسلح، إلى الضغوط السياسية الداخلية في كلا البلدين، إلى وجود أطراف ثالثة قد تسعى لإشعال الفتيل. إن الخطر الأكبر لا يكمن في قرار عقلاني ومدروس بشن حرب شاملة، بل في “حادث عرضي” أو “سوء تقدير” في قراءة نوايا الخصم أثناء إحدى جولات التصعيد المحدودة. ضربة إسرائيلية يعتقد صانعوها أنها “محدودة”، قد تراها طهران “إعلان حرب”. رد إيراني يعتقد مخططوه أنه “محسوب”، قد تراه تل أبيب “تجاوزاً لكل الخطوط الحمراء”.
في هذه الدوامة، قد يجد الطرفان نفسيهما منزلقين في حرب لم يريداها، لكن لم يعد بإمكانهما إيقافها. وحينها، ستتغير بالفعل خريطة الشرق الأوسط، ولكن ليس نحو مستقبل أفضل لأي طرف، بل نحو واقع أكثر دماراً وفوضى، لتصبح فيه تكلفة “الانتصار” باهظة لدرجة لا يمكن تمييزها عن تكلفة “الهزيمة”.