تأتي دعوة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، لزيارة موسكو ضمن سياق التحركات الدبلوماسية الروسية في المنطقة، مما أثار ردود فعل أمريكية حذرت من التداعيات طويلة الأمد للوجود الروسي في سوريا. وقد عبرت واشنطن عن مخاوفها بشأن تأثير هذا الوجود على أمنها القومي ومصالح حلفائها الإقليميين، وذلك خلال تصريحات السيناتور الأمريكي جيم ريش في معهد هدسون للأبحاث.
دعوة موسكو لدمشق: تعزيز النفوذ الروسي أم فصل جديد من المواجهة؟
تاريخ الإصدار: 8 يونيو 2025
تتجاوز دعوة موسكو لوزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، حدود البروتوكول الدبلوماسي لتشكل رسالة استراتيجية روسية تهدف إلى تثبيت المكاسب العسكرية وتحويلها إلى نفوذ سياسي واقتصادي دائم في سوريا وشرق المتوسط. هذا التحرك الروسي قوبل برد فعل أمريكي قوي تمثل في تحذيرات السيناتور جيم ريش، التي نقلت القلق الأمريكي من مجرد التعامل مع “النظام السوري” إلى مستوى مواجهة “الخطر الاستراتيجي طويل الأمد” الذي يمثله الوجود الروسي ذاته.
يقوم هذا التحليل على فرضية أن الملف السوري لم يعد يقتصر على كونه صراعًا داخليًا ذا أبعاد إقليمية، بل أصبح ساحة لتنافس القوى العظمى. هذه الورقة تفكك الأهداف الحقيقية للمناورة الروسية، وتكشف أبعاد الموقف الأمريكي الذي يرى في سوريا نقطة ضعف لحلف الناتو وتهديدًا لمصالح حلفائه. كما تخلص الورقة إلى أن مستقبل سوريا لم يعد مرتبطًا فقط بتوازنات الداخل، بل أصبح مرهونًا بقواعد الاشتباك والمساومات بين واشنطن وموسكو، مما يفرض على الأطراف الإقليمية إعادة تقييم سياساتها وفقًا لهذا الواقع الجديد.
السياق الاستراتيجي: ما بعد رفع العقوبات
تأتي دعوة الشيباني إلى موسكو في توقيت حساس، فبعد قرار الولايات المتحدة برفع بعض العقوبات عن دمشق لأسباب محددة تتعلق بمكافحة الإرهاب والأسلحة الكيميائية، دون الإشارة إلى تقليص النفوذ الروسي، سعت موسكو لاستغلال هذا الهامش لتوجيه رسائل واضحة:
لسوريا: التأكيد على أن روسيا هي الحليف الاستراتيجي الأوثق والضامن الأمني، وأن أي انفتاح سوري على الغرب يجب أن يتم عبر القنوات الروسية أو على الأقل بموافقتها.
للولايات المتحدة: التشديد على أن النفوذ الروسي في سوريا أصبح أمرًا واقعًا ودائمًا، ولن يكون ورقة تفاوض في أي تسويات مستقبلية، حيث تسعى موسكو إلى ترسيخ قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم كركيزة دائمة في البحر المتوسط.
تفكيك الحسابات الروسية: من التدخل العسكري إلى الترسّخ الاستراتيجي
لا تقتصر أهداف موسكو على دعم وحدة الأراضي السورية، بل تشمل اعتبارات استراتيجية أكثر عمقًا:
المكاسب الجيوسياسية: تسعى روسيا لتحويل وجودها العسكري المؤقت إلى نفوذ دائم، إذ توفر سوريا عمقًا استراتيجيًا لموسكو في مواجهة حلف الناتو، ومنصة لإبراز القوة في منطقة حيوية للطاقة والتجارة العالمية.
الاستثمار الاقتصادي طويل الأمد: تعمل روسيا على تعزيز نفوذها الاقتصادي في سوريا عبر مشاريع استخراج الفوسفات والغاز وضمان صادرات الحبوب الروسية، مما يؤدي إلى خلق تبعية اقتصادية متزايدة تضمن ولاء دمشق مستقبلاً.
إدارة التحالفات الإقليمية: التنسيق بين روسيا وتركيا في الشمال السوري ليس مجرد تكتيك، بل جزء من استراتيجية أوسع لإدارة اللاعبين الإقليميين ومنع أي طرف من تحدي الهيمنة الروسية، مع استخدام هذا النفوذ كورقة ضغط داخل حلف الناتو نفسه.
تحليل الموقف الأمريكي: القلق يتجاوز الملف السوري
تصريحات السيناتور جيم ريش في “معهد هدسون”، وهو مركز أبحاث محافظ ومؤثر، تعكس تحولاً في رؤية واشنطن الاستراتيجية:
من “مشكلة الأسد” إلى “مشكلة روسيا”: لم يعد التركيز الأمريكي منصبًا على سلوك النظام السوري بقدر ما هو على النفوذ الروسي المتنامي، الذي تعتبره واشنطن تهديدًا مباشرًا لمصالحها العسكرية والاستخباراتية في المنطقة.
تحدي الهيمنة في شرق المتوسط: ترى واشنطن أن التوسع الروسي في سوريا يشكل خطرًا على حرية الملاحة الأمريكية في المتوسط، مما يضعف قدرة الولايات المتحدة على حماية أمن أوروبا وإسرائيل.
السياسة الواقعية: رفع بعض العقوبات لم يكن مشروطًا بطرد روسيا، مما يعكس اعتراف واشنطن بصعوبة تحقيق هذا الهدف حاليًا، لذا تتحول استراتيجيتها من محاولة “إخراج” روسيا إلى محاولة “احتواء” نفوذها وتقييد تحركاتها.
التداعيات والسيناريوهات المحتملة
يؤدي هذا التنافس بين موسكو وواشنطن إلى سيناريوهات محتملة:
التنافس المحسوب (الأكثر ترجيحًا): ستواصل القوتان العظميان تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، مع تكثيف التنافس في مجالات النفوذ السياسي والاقتصادي.
التفاهمات غير المعلنة: قد يتم التوصل إلى تفاهمات ضمنية لتقاسم مناطق النفوذ، حيث تسيطر روسيا على الساحل السوري والقواعد العسكرية، بينما تدير الدول الغربية والخليجية ملفات إعادة الإعمار.
التصعيد غير المباشر (الأقل احتمالًا): قد يؤدي احتكاك عسكري أو حادث غير متوقع بين القوات الروسية والأمريكية إلى تصعيد محدود يتم احتواؤه سريعًا عبر القنوات الدبلوماسية والعسكرية.
توصيات سياسية
للولايات المتحدة وحلفائها: يجب الانتقال من سياسة “الضغط” إلى سياسة “المنافسة” عبر تقديم بدائل اقتصادية لسوريا تقلل من الاعتماد على روسيا.
للدول الإقليمية: تنسيق السياسات لتجنب الوقوع في فخ الاستقطاب بين موسكو وواشنطن، ويمكن تشكيل “مجموعة اتصال إقليمية” لتوحيد الرؤى حول مستقبل سوريا.
للحكومة السورية: تبني استراتيجية براغماتية توازن بين الحفاظ على العلاقات مع روسيا واستغلال الفرص الاقتصادية التي يوفرها الغرب والخليج.
الخاتمة
لم تعد الأزمة السورية مجرد قضية إقليمية، بل أصبحت جزءًا من صراع القوى العظمى. إن إدارة هذا التجاذب بين موسكو وواشنطن، وتجنب تحوله إلى مواجهة مفتوحة، هو التحدي الأكبر الذي يواجه الدبلوماسية الدولية والإقليمية، ويستلزم رؤية استراتيجية تأخذ مصالح الشعب السوري بعين الاعتبار في ظل هذا المشهد المعقد.