على السطح، تبدو قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي اختتمت أعمالها في لاهاي في 25 يونيو/حزيران 2025، نجاحاً باهراً ونقطة تحول تاريخية. فقد تمكن الحلف، تحت ضغط أمريكي مكثف، من انتزاع تعهد من أعضائه الـ 32 برفع الإنفاق الدفاعي والأمني إلى نسبة غير مسبوقة تبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035. وقد سارع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إعلان هذا “الانتصار العظيم”، معتبراً إياه تحقيقاً لمطلبه طويل الأمد. لكن قراءة أعمق لمجريات القمة ونتائجها تكشف عن واقع أكثر تعقيداً. فهذا الانتصار المالي، الذي تم الاحتفاء به، لم يأتِ إلا كثمن لصفقة سياسية كبرى، حيث تم إخضاع الأجندة الاستراتيجية للحلف ومبادئه التأسيسية لأهواء وشخصية زعيم واحد. تطرح هذه الورقة حجة مفادها أن قمة لاهاي، بعيداً عن كونها تحولاً استراتيجياً حقيقياً، تمثل حالة من الانصياع التكتيكي الأوروبي الذي نجح في تأمين التزام مالي قصير الأجل، ولكنه في المقابل كشف وعمّق الشروخ في الثقة السياسية والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها التحالف الأطلسي.
عامل ترامب: من شريك استراتيجي إلى مبدأ تنظيمي للقمة
كانت السمة الأبرز لقمة لاهاي هي أن شخصية الرئيس ترامب لم تكن مجرد متغير مؤثر، بل تحولت إلى المبدأ التنظيمي الأوحد للحدث برمته. فالترتيبات اللوجستية والبروتوكولية، مثل تقليص مدة الاجتماعات لتجنب “ملل” الرئيس الأمريكي، والغموض الذي أُحيط بدعوة الرئيس الأوكراني لتجنب “استفزازه”، تظهر أن الأولوية لم تكن للمداولات الاستراتيجية المعمقة، بل لإدارة مزاج الرئيس الأمريكي وضمان رضاه. هذا التحول في الأولويات يحمل دلالات خطيرة؛ فهو ينقل الحلف من كونه تحالفاً للدول المتساوية التي تناقش التهديدات المشتركة، إلى ما يشبه البلاط الذي يتمحور حول إرضاء سيد القصر. إن نجاح أي قمة عندما يصبح مرهوناً بعدم إثارة غضب شخص واحد، فإن التحالف يكون قد فقد بوصلته الاستراتيجية بالفعل.
اتفاق الإنفاق: انتصار قائم على الصفقات لا على الإجماع الاستراتيجي
لا شك أن هدف الـ 5% هو رقم ضخم، ويمثل تحولاً كبيراً في سياسات الإنفاق الأوروبية. لكن الطريقة التي تم بها التوصل إليه تجرده من قيمته الاستراتيجية. لم يأتِ هذا الاتفاق نتيجة نقاش هادئ وقناعة مشتركة بضرورة هذا المستوى من الإنفاق لمواجهة تهديدات محددة، بل جاء كاستجابة مباشرة لإنذار أمريكي واضح: “ادفعوا، وإلا فإن أمنكم في خطر”. لغة ترامب (“لطالما طالبتهم… وسيصلون إليها”) تؤطر هذا الإنجاز كصفقة تجارية أكثر منه كالتزام أمني مشترك.
وتتجلى هشاشة هذا الاتفاق في التحفظات والشكوك التي أبدتها دول عدة، وعلى رأسها إسبانيا. إن منح رئيس الوزراء بيدرو سانشيز “استثناءً” مؤقتاً، ثم تهديده مباشرةً بعقوبات تجارية، يكشف عن منطق “الراكب المجاني” الذي يتبناه ترامب، وهو منطق يقوّض فكرة الأمن الجماعي غير المشروط. فالحلفاء لا يُفترض أن “يعوضوا” بعضهم البعض عبر التجارة مقابل الحماية، بل يتقاسمون الأعباء والمخاطر من منطلق المصير المشترك.
تآكل المبدئ التأسيسي: المادة الخامسة على المحك
لعل أخطر ما شهدته القمة هو التلاعب المتعمد بمبدأ الدفاع المشترك المنصوص عليه في المادة الخامسة. فتصريح ترامب المبدئي بأن التزامه بالمادة “يعتمد على تعريفكم لها” لم يكن زلة لسان، بل كان رسالة مقصودة تهدف إلى تفكيك حجر الزاوية في التحالف. لقد حوّل هذا التصريح الضمانة الأمنية المطلقة إلى سلعة خاضعة للتفاوض والابتزاز. ورغم تراجعه لاحقاً وتأكيد البيان الختامي على الالتزام بالمادة، إلا أن الضرر قد وقع. لقد تم زرع الشك في قلب العقيدة الأطلسية، وأصبح الالتزام الأمريكي، في نظر الكثيرين، التزاماً مشروطاً بالرضا الرئاسي والامتثال المالي، وليس واجباً تعاهدياً.
المعضلة الأوروبية: بين البراغماتية والخضوع
في مواجهة هذا الواقع، وجد القادة الأوروبيون، وفي مقدمتهم الأمين العام للناتو مارك روته، أنفسهم في موقف لا يُحسدون عليه. يمكن تفسير سلوك روته، الذي وُصف بأنه “إذلالي” و”خاضع”، من زاويتين:
زاوية البراغماتية الدبلوماسية: يرى المدافعون عن روته، مثل المستشار الألماني فريدريش ميرتس، أن براعته الدبلوماسية كانت ضرورية “للحفاظ على تماسك التحالف” وتجنب انهياره. ففي مواجهة رئيس أمريكي متقلب، كان لا بد من استخدام لغة غير تقليدية وتنازلات شكلية لتأمين نتيجة ملموسة (اتفاق الإنفاق) والحفاظ على انخراط الولايات المتحدة.
زاوية الخضوع السياسي: يرى النقاد أن أسلوب روته، وخصوصاً رسالته المليئة بالثناء المبالغ فيه لترامب، تجاوز حدود الدبلوماسية إلى مستوى من التزلف الذي يضر بصورة أوروبا ومكانتها. لقد أضفى هذا السلوك طابعاً من الإذلال على القمة، وأظهر أوروبا ككيان ضعيف يستجدي الحماية بدلاً من كونه شريكاً قوياً.
الحقيقة تكمن على الأرجح بين الموقفين. لقد كانت مناورة روته براغماتية في هدفها (الحفاظ على الحلف)، ولكنها كانت باهظة الثمن من حيث الكرامة السياسية والمكانة الاستراتيجية لأوروبا.
ما بعد الانتصار المالي
في الختام، خلّفت قمة لاهاي انطباعاً متناقضاً. لقد نجحت في تحقيق هدف مالي طال انتظاره، وهو ما سيؤدي بلا شك إلى تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية على المدى الطويل. لكنها فعلت ذلك عبر إرساء سابقة خطيرة، حيث تم تكييف بنية الحلف وأجندته ومبادئه لتناسب نزوات زعيم واحد. الثمن كان تآكل الثقة، والتشكيك في قدسية الالتزامات المشتركة، وإظهار أوروبا في موقع التابع لا الشريك.
إن التحدي الحقيقي للناتو الآن ليس في كيفية إنفاق الـ 5%، بل في كيفية إصلاح الضرر السياسي الذي لحق بالتحالف. لقد تمكن الحلفاء من شراء رضا الرئيس الأمريكي مؤقتاً بالمال، لكنهم تركوا الأسئلة الاستراتيجية الكبرى حول مستقبل العلاقة عبر الأطلسي، وطبيعة الالتزام الأمريكي، وسبل تحقيق استقلالية أوروبية حقيقية، معلقة وبلا إجابات واضحة. لقد كانت قمة لاهاي انتصاراً في الحسابات، ولكنها قد تسجل في التاريخ كبداية لشرخ أعمق في الروح التي تأسس عليها الحلف.