في خضم التصعيد المتسارع بين طهران وتل أبيب، والذي بات ينذر بمواجهة عسكرية قد تخرج عن السيطرة، تتجه أنظار العالم ليس فقط إلى أطراف الصراع المباشرين وحلفائهم الغربيين، بل أيضاً إلى موسكو. يطرح الموقف الروسي معضلة تحليلية عميقة: فهل ستتحرك روسيا، الشريك الاستراتيجي لإيران، لنجدة حليفها في مواجهة آلة عسكرية تدعمها واشنطن، أم أن الكرملين يدير حسابات أكثر تعقيداً وبراغماتية، مستفيداً من أزمة قد تخدم مصالحه العليا بطرق غير مباشرة؟
تستند هذه الورقة البحثية إلى فرضية أساسية مفادها أن الموقف الروسي من الصراع الإيراني-الإسرائيلي لا تحكمه روابط التحالف الأيديولوجي أو الالتزامات العسكرية الصارمة، بل تحكمه عقيدة “الواقعية السياسية” (Realpolitik) البحتة. من خلال هذا المنظور، ستحلل الورقة طبيعة العلاقة الروسية-الإيرانية، وتأثير سوابق الأداء الروسي في سوريا، وتستعرض الحوافز الاقتصادية والجيوسياسية التي قد تدفع موسكو ليس فقط إلى الحياد، بل إلى استثمار الأزمة لصالحها. سنخلص إلى أن الكرملين، على الأرجح، “سيصطاد في الماء العكر”، مقدماً دعماً خطابياً محدوداً لطهران، بينما يجني الفوائد الاستراتيجية الناتجة عن انشغال خصومه الغربيين في بؤرة توتر جديدة.
أولاً: تفكيك “تحالف الضرورة” بين موسكو وطهران
لوصف العلاقة بين روسيا وإيران بمصطلح “حلف” تقليدي، كما يشير البعض، هو تبسيط مخل قد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة. فالعلاقة بين البلدين، رغم عمقها التكتيكي في بعض الملفات، هي أقرب إلى “شراكة استراتيجية” أو “تحالف ضرورة”، قائم على تقاطع المصالح اللحظية، وفي مقدمتها الرؤية المشتركة نحو عالم متعدد الأقطاب ومناهضة الهيمنة الأمريكية. هذا التحالف الظرفي يفتقر إلى البعد المؤسسي وإلى معاهدة دفاع مشترك ملزمة، وهو ما أكدته الدبلوماسية الروسية صراحةً.
ففي تصريح لافت، شدد نائب وزير الخارجية الروسي، أندريه رودينكو، على أن “توقيع المعاهدة الذي جرى في نيسان الماضي لا يعني إنشاء تحالف عسكري مع إيران أو تقديم مساعدة عسكرية متبادلة”. يمثل هذا التصريح، الذي جاء في وقت حرج، رسالة واضحة للعالم بأن التزامات موسكو تجاه طهران لها سقف محدد. هذا السقف لا يشمل الانجرار إلى حرب مباشرة مع إسرائيل، وبالتالي مع الولايات المتحدة.
وقد أظهرت تقارير من مؤسسات بحثية مثل “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” (ECFR) أن التعاون الروسي-الإيراني، حتى في ذروته في الساحة السورية، كان يتسم بالتنافس الخفي بقدر ما كان يتسم بالتنسيق. فكلا الطرفين كان يسعى لتعظيم نفوذه على حساب الآخر في دمشق. هذا التاريخ من التعاون الحذر والمشوب بالمنافسة يؤكد أن العلاقة مبنية على البراغماتية، ويمكن التضحية بها إذا ما تعارضت مع مصالح روسيا الحيوية. ويضاف إلى ذلك ما ورد في النص من أن روسيا لم تعد “بحاجة إليها (إيران) في تصنيع الطائرات المسيرة التي تحتاجها للحرب ضد أوكرانيا”، مع وصول قدرتها الإنتاجية الذاتية إلى 2700 مسيرة شهرياً. هذا الاستقلال التكنولوجي النسبي يقلل من أهمية إيران كشريك تكتيكي، ويمنح موسكو مرونة أكبر في اتخاذ قراراتها بمعزل عن الضغوط الإيرانية.
ثانياً: سوابق الأداء في سوريا وأزمة المصداقية كحليف
تعتبر تجربة التدخل الروسي في سوريا مختبراً حيوياً لفهم حدود الالتزام الروسي تجاه حلفائه. يشير النص المرفق إلى منظور نقدي يعتبر أن الأداء الروسي في سوريا “أدى إلى سقوط نظام بشار الأسد”، وهو ما يمثل، ضمن سياق الأحداث المفترضة لعام 2025، ضربة قاصمة لمصداقية بوتين كحليف يمكن الاعتماد عليه في الأوقات العصيبة. بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة لهذا الحدث المفترض، فإن الفكرة الجوهرية تظل قائمة: روسيا تتدخل لحماية مصالحها (مثل قواعدها البحرية والجوية في سوريا) وليس بالضرورة لضمان بقاء الأنظمة الحليفة بأي ثمن.
لقد أظهرت روسيا في سوريا قدرة فائقة على إدارة علاقات متناقضة في آن واحد. فبينما كانت تدعم الجيش السوري، كانت تحافظ على خطوط اتصال وتنسيق أمني (Deconfliction) مع إسرائيل، سمحت بموجبه للطيران الإسرائيلي بتوجيه مئات الضربات ضد أهداف إيرانية ومليشيات تابعة لها داخل الأراضي السورية. هذا السلوك المزدوج يبعث برسالة واضحة إلى طهران مفادها أن أمن إسرائيل هو خط أحمر غير معلن بالنسبة لموسكو، وأن الشراكة مع إيران لن تكون على حساب إشعال مواجهة شاملة مع تل أبيب.
تأثر مصداقية بوتين لدى حلفائه، خاصة بعد “تراجعه عن دعم نظام بشار الأسد” بينما كان الحرس الثوري وحزب الله يستعدان للدفاع عنه، يخلق حالة من الشك العميق في طهران. القيادة الإيرانية تدرك اليوم أن الرهان على تدخل روسي مباشر هو رهان خاسر، وأن الدعم الروسي لن يتجاوز، في أحسن الأحوال، الحماية الدبلوماسية في المحافل الدولية.
ثالثاً: الفرص الكامنة في الأزمة: حسابات النفط والجيوسياسة
إذا كان الدعم المباشر لإيران محفوفاً بالمخاطر، فإن الحياد المحسوب والميل نحو استثمار الأزمة يفتح أمام الكرملين فرصاً استراتيجية واقتصادية لا تقدر بثمن.
1. نعمة النفط الاقتصادية:
إن أولى ثمار أي صراع واسع في الشرق الأوسط هي الارتفاع الفوري في أسعار الطاقة. وكما يشير النص، فإن أسعار نفط الأورال الروسي “تجاوزت حاجز 60 دولارًا، متجاوزة سقف الأسعار الذي فرضته الدول السبع”. هذه ليست مجرد مكاسب مالية، بل هي أداة استراتيجية كبرى. فكل دولار إضافي في سعر برميل النفط يعني مليارات الدولارات التي تتدفق إلى الخزينة الروسية، مما يمكنها من:
تمويل حربها في أوكرانيا بكفاءة أكبر.
تخفيف وطأة العقوبات الغربية القاسية.
تعزيز احتياطاتها المالية واستقرارها الاقتصادي الداخلي. وفقاً لتقارير وكالة الطاقة الدولية (IEA)، فإن أي تعطيل للإمدادات من مضيق هرمز سيخلق فوضى في أسواق الطاقة العالمية، وستصبح روسيا، كمنتج رئيسي خارج منظومة العقوبات الغربية الكاملة، المستفيد الأكبر من هذا الوضع.
2. إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية:
الفوائد الاستراتيجية لا تقل أهمية عن المكاسب الاقتصادية.
إلهاء الغرب: تمثل الحرب في أوكرانيا العبء الاستراتيجي الأكبر على روسيا. إن اندلاع حرب كبرى في الشرق الأوسط بين إيران وإسرائيل (والولايات المتحدة) سيجبر واشنطن وحلفاءها الأوروبيين على تحويل انتباههم ومواردهم العسكرية والدبلوماسية الهائلة بعيداً عن أوكرانيا. هذا الإلهاء يمنح موسكو متسعاً من الوقت والمجال للمناورة في جبهتها الغربية، وقد يغير مسار الصراع هناك لصالحها.
تعزيز النفوذ على الصين: تستهلك الصين، وفقاً للبيانات، “حوالي 1.8 مليون برميل يومياً من النفط الإيراني”. إن قطع هذه الإمدادات بسبب الحرب سيجعل بكين أكثر اعتماداً على مصادر الطاقة الروسية. هذا الاعتماد المتزايد يمنح موسكو ورقة ضغط ثمينة في علاقتها المعقدة مع شريكها الصيني الأكبر، ويعزز من مركزيتها في أمن الطاقة العالمي.
دور الوسيط المحتمل: من خلال تجنب الانحياز الكامل، يمكن لروسيا أن تروج لنفسها كوسيط لا غنى عنه لحل النزاع، كما حاول بوتين أن يفعل في البداية. حتى لو كان نجاحها الدبلوماسي “بعيد المنال”، فإن مجرد لعب هذا الدور يعزز من مكانتها كقوة عظمى على الساحة الدولية، ويقدمها كبديل عن الدبلوماسية الغربية.
رابعاً: حدود القوة والخيارات المتاحة
في ظل هذه الحسابات، ما الذي يمكن لروسيا أن تقدمه لإيران عملياً؟ الخيارات محدودة للغاية وتظل في معظمها رمزية.
حق الفيتو في مجلس الأمن: هذا هو السلاح الأقوى والأكثر واقعية في جعبة موسكو. يمكن لروسيا استخدام حق النقض (الفيتو) لإحباط أي قرار أممي يدين إيران أو يفرض عليها عقوبات جديدة أو يمنح شرعية دولية لأي عمل عسكري ضدها. ورغم أهميته، إلا أن الفيتو لا يوقف الصواريخ أو الطائرات.
الدعم الاستخباراتي والخطابي: قد تقدم موسكو لطهران بعض المعلومات الاستخباراتية، وتستمر في إدانة “انتهاكات إسرائيل لميثاق الأمم المتحدة”، لكن هذا الدعم لن يغير من موازين القوى على الأرض.
غياب الالتزام العسكري: كما تم توضيحه، لا يوجد التزام عسكري، والجيش الروسي منهك بالفعل في أوكرانيا، ولا يمتلك القدرة اللوجستية أو الإرادة السياسية لفتح جبهة جديدة شديدة الخطورة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.
خاتمة: براغماتية فوق الاعتبارات الأيديولوجية
في الختام، إن الإجابة على سؤال ما إذا كانت روسيا ستتدخل عسكرياً إلى جانب إيران تبدو واضحة: الاحتمال يقترب من الصفر. فالسياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين أثبتت مراراً وتكراراً أنها تسترشد بالبراغماتية القاسية وليس بالمشاعر أو الالتزامات الأيديولوجية.
إن الكرملين يرى في الصراع الإيراني-الإسرائيلي أزمة تحمل في طياتها فرصاً أكبر بكثير من المخاطر. فبينما قد تخسر روسيا شريكاً ظرفياً في طهران إذا ما انهار النظام الحالي، فإن المكاسب المحتملة – من ارتفاع أسعار النفط، إلى إلهاء الغرب، وتعزيز النفوذ على الصين – هي مكاسب استراتيجية كبرى قد تغير مسار الصراع في أوكرانيا وتعزز مكانة روسيا العالمية. لذلك، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تتبنى موسكو موقفاً مزدوجاً: إدانة خطابية للعدوان على إيران، مع سماح ضمني بحدوثه، والعمل بجد خلف الكواليس لجني ثماره الاقتصادية والجيوسياسية. بالنسبة للكرملين، فإن حرباً مستعرة في الشرق الأوسط لا تشارك فيها مباشرة هي ليست كارثة، بل فرصة.