في خضم التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط، والتي بلغت ذروتها الافتراضية في الهجمات الإسرائيلية على البنية التحتية النووية الإيرانية في يونيو 2025، يبرز موقف روسيا الاتحادية كمتغير رئيسي في معادلة الصراع. فعلى الرغم من الخطاب الرسمي المندد بالأعمال الإسرائيلية، والعلاقات الاستراتيجية العميقة التي تربط موسكو بطهران — والموثقة في “معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة” — يظل التساؤل المحوري قائمًا: لماذا تحجم روسيا عن تقديم دعم عسكري مباشر لحليفتها إيران؟
تهدف هذه الورقة التحليلية إلى تفكيك الأبعاد المعقدة للموقف الروسي، متجاوزة السرد الخبري السطحي نحو تحليلٍ بحثيٍّ معمّق. وتنطلق من فرضية أساسية مؤداها أن تردد موسكو لا يعكس ضعفًا أو تراجعًا، بل ينبع من سياسة براغماتية محسوبة، توازن بدقة بين مصالحها المتشعبة في المنطقة وأولوياتها الجيوسياسية في الساحة الدولية، وفي مقدمتها الصراع في أوكرانيا. ومن خلال أسلوب سرديٍّ مبسّطٍ وتوثيق تحليلي، نسعى في هذه الورقة إلى الغوص في طبقات الاستراتيجية الروسية، مدعومين بتقارير ومصادر دولية متخصصة.
دلالات التحالف: تفكيك “الشراكة الاستراتيجية”
عند النظر إلى طبيعة العلاقة الروسية-الإيرانية، من الضروري تجاوز التوصيفات الإنشائية أو التصنيفات الجامدة. فـ”معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، التي صادق عليها البرلمان الإيراني عقب الهجمات الإسرائيلية، لا ترقى إلى مستوى التحالف العسكري الملزم، كما هو الحال في المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي (الناتو). وكما أشار النص المرفق، فإن جوهر الاتفاقية يكمن في “الامتناع عن مساعدة الخصم”، وهو تعهد سلبي لا يرقى إلى الالتزام الإيجابي بالدفاع المشترك.
وتؤكد تقارير صادرة عن مراكز فكرية دولية، مثل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) ومعهد كارنيغي للسلام الدولي، أن الشراكة الروسية-الإيرانية هي أقرب إلى “تحالف الضرورة” منها إلى “تحالف أيديولوجي”. فكلا البلدين يعاني من عقوبات اقتصادية غربية خانقة، ويشتركان في رؤية عالمية بديلة تسعى إلى تقويض الهيمنة الأمريكية وتأسيس نظام دولي متعدد الأقطاب. وقد ازداد هذا التقارب منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، خصوصًا في مجالات محددة مثل التعاون الاقتصادي، وصفقات السلاح (من أبرزها الطائرات المسيرة الإيرانية لروسيا)، وتبادل الخبرات في تجنب العقوبات.
لكن رغم هذا الانسجام التكتيكي، لا تشير الوقائع إلى أن موسكو مستعدة للقتال دفاعًا عن طهران. ذلك أن مصالح روسيا في الشرق الأوسط أكثر تعقيدًا من أن تختزل في دعم طرف واحد.
حسابات المصالح: لعبة التوازنات الدقيقة لموسكو
تشبه السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط لعبة شطرنج دقيقة، تسعى فيها موسكو للمحافظة على خطوط تواصل مع جميع الأطراف، بمن فيهم خصوم إيران الإقليميون. وكما ذكرت المحللة ماريانا بيلينكايا، فإن روسيا “ليس لديها حاجة للدخول في مواجهة مباشرة”، بل تُفضّل الحياد النشط للحفاظ على نفوذها المتنوع.
العلاقة مع إسرائيل: تحتفظ موسكو وتل أبيب بآلية تنسيق عسكري محكمة في سوريا تُعرف بـ”آلية عدم التصادم” (Deconfliction Mechanism). هذه الآلية تتيح لإسرائيل تنفيذ ضربات جوية دقيقة ضد مواقع إيرانية أو تابعة لوكلائها، دون تدخل من القوات الروسية المنتشرة في سوريا. أي دعم عسكري روسي مباشر لإيران من شأنه أن يُفجّر هذه الآلية بالكامل، ويُعرّض الوجود الروسي في سوريا للخطر، ويخلق جبهة مواجهة لا ترغب بها موسكو.
دور الوسيط المحايد: يُطرح بوتين نفسه — وفق النص — كوسيط محتمل. وهذا الدور يعزز صورة روسيا كقوة عظمى ضرورية، ويمنحها مساحة أوسع للمناورة الدبلوماسية مقارنة بالولايات المتحدة. ويستشهد نص الورقة بمثال جوهري: احتمال استقبال روسيا “لمخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب”، وهو ما يُظهر براعة موسكو في تحويل الأزمات إلى فرص لتوسيع أدوارها المحورية.
وقد أظهرت تقارير مجموعة الأزمات الدولية (ICG) مرارًا كيف تستثمر موسكو الفراغات التي تخلفها السياسة الأمريكية لصالح توسيع نفوذها الدبلوماسي في أزمات معقدة.
الجبهة الأوكرانية: المسرح الاستراتيجي الأهم
يُمثل الصراع في أوكرانيا أولوية مطلقة للكرملين، ويتفوق في أهميته على أي أزمة إقليمية أخرى. ومن وجهة نظر موسكو، فإن التصعيد في الشرق الأوسط يشكّل فرصة استراتيجية وليس عبئًا.
بحسب المحلل رسلان سليمانوف، فإن
“من مصلحة الكرملين صرف انتباه القادة الأمريكيين والأوروبيين عما يحدث في أوكرانيا”. هذه السياسة، المعروفة اصطلاحًا باسم “Escalate to De-escalate Elsewhere” (تصعيد موضعي لخفض التصعيد في جبهة أخرى)،
تخدم موسكو على عدة محاور:
تشتيت الموارد والاهتمام الغربي: عندما توضع الأزمة الإيرانية-الإسرائيلية على رأس جدول أعمال مجموعة السبع G7، فإن ذلك يُفرغ بعض الطاقات السياسية والعسكرية التي كانت مكرّسة لدعم كييف.
زعزعة وحدة الموقف الغربي: يفرض الصراع حالة من الإرباك داخل المعسكر الغربي، نظرًا لاختلاف الرؤى والمصالح بين أعضاء الحلف حيال طهران وتل أبيب، مما يخلق تصدعات في الإجماع الغربي.
اغتنام اللحظة للانقضاض: يشير المحلل إلى أن انشغال العالم بأزمة جديدة قد يمنح موسكو “الفرصة لشن هجوم أو التسبب في مشاكل أخرى” داخل أوكرانيا، دون أن تواجه استجابة غربية عاجلة أو منسّقة. ويُعد الهجوم العنيف على كييف الذي تزامن مع قمة G7 في النص مثالًا دراميًا لهذه الاستراتيجية المحسوبة.
وتؤكد تقارير معهد دراسات الحرب (ISW) أن موسكو توظّف بانتظام الأحداث الجيوسياسية الكبرى لصرف الأنظار عن تحركاتها العسكرية في أوكرانيا.
خاتمة: براغماتية فوق الأيديولوجيا
في المحصلة، يكشف تردد روسيا عن جوهر عقيدة بوتين الاستراتيجية: البراغماتية الباردة. فإدانة موسكو للهجوم الإسرائيلي تمثل ضرورة دبلوماسية، لكنها لا تنطوي على التزامات ميدانية. وعلى الرغم من أن روسيا ترى في إيران شريكًا مهمًا داخل تكتلات مثل “بريكس”، فإن هذا لا يجعل منها حليفًا بالمعنى الأمني التقليدي.
فالمصالح الروسية في المنطقة موزّعة بعناية: من التنسيق الأمني مع إسرائيل، إلى العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج، وصولًا إلى دعمها التاريخي لسوريا. الزج بنفسها في حرب لصالح إيران سيفجّر هذه المصالح، من دون أي ضمان لتحقيق مكاسب مقابلة.
الأهم من ذلك أن أوكرانيا تبقى المسرح الفاصل لمستقبل روسيا الجيوسياسي. ولذلك، فإن دعم موسكو لطهران سيظل محصورًا في القنوات الدبلوماسية، وفي إطار استثمار الأزمة لإضعاف جبهة الغرب.
وعليه، لا ينبغي لطهران أن تتوقع “اندفاع الدب الروسي” لنجدتها في مواجهة عسكرية شاملة. ففي ميزان موسكو، بقاء النظام الإيراني مرغوب فيه، لكن ليس بثمن إشعال حريق يُفقد روسيا توازنها في ساحات أكثر حسمًا.