في ساحة المعركة الحديثة، لم تعد الهيمنة تُحسم بالقوة النارية وحدها أو بتفوق العدد والعتاد، بل أصبحت المعلومة هي سلاح النخبة. لعقود، مثّلت تكنولوجيا الشبح، كما تتجسد في مقاتلات مثل F-35 الأمريكية، ذروة التفوق الجوي، حيث تأسست عقيدتها على مبدأ “أن تضرب دون أن تُرى”. إلا أن من طبائع التنافس الاستراتيجي أن كل تفوق يُحفّز خصمًا على تطوير أداة لتحييده.
واليوم، يبدو أننا على أعتاب تحول نموذجي (Paradigm Shift) في هذا الصراع، تقوده الصين عبر استثمارها في تقنيات الجيل السادس (6G) لشن ثورة صامتة في مفاهيم الحرب الإلكترونية.
تستند هذه الورقة إلى فرضية مفادها أن تطوير الصين لنظام حرب إلكترونية قائم على الجيل السادس لا يُعد مجرد اختراق تقني، بل يمثل خطوة استراتيجية مصممة لخلق تفوق غير متكافئ (Asymmetric Supremacy). وبدلًا من السعي لتقليد التكنولوجيا الغربية أو منافسة الولايات المتحدة عبر مقاتلة شبحية موازية، تسعى بكين إلى ابتكار ما يجعل هذه المقاتلات عديمة الجدوى أصلاً. ستحلل هذه الورقة الأبعاد التقنية للابتكار الصيني، وتداعياته على مستقبل سلاح الجو، ودلالاته في معركة السيطرة على الطيف الكهرومغناطيسي.
أولاً: تفكيك القفزة التكنولوجية – ما بعد التشويش التقليدي
لفهم مغزى الإنجاز الصيني، لا بد أولًا من التعرّف على التحدي الكامن في اختراق قدرات مقاتلة F-35. فالرادار AN/APG-85، المُنتج من شركة “نورثروب غرومان”، ليس كأي رادار تقليدي، بل هو رادار صفيف نشط بتقنية المسح الإلكتروني (AESA)، يعمل بمبدأ “البصمة الرادارية المنخفضة” (Low Probability of Intercept – LPI)، مما يجعل رصده أو التشويش عليه بالغ الصعوبة.
هذا النظام المتطور يُغيّر تردداته ضمن نطاق واسع بسرعة فائقة، ما يجعل وسائل التشويش الكلاسيكية، التي تعتمد على إغراق تردد معين بالضوضاء، غير مجدية. وهنا برزت عبقرية النموذج الصيني بقيادة البروفيسور دينغ لي من جامعة هواجونغ، الذي تبنّى نهج “التشويش الخادع” (Deceptive Jamming) بدلاً من التشويش الصريح.
فبدلًا من محاولة “إعماء” الرادار بالضوضاء، يسعى النظام إلى “إرباكه عن طريق إغراقه بمعلومات زائفة”. إن قدرته على إنتاج أكثر من 3600 هدف وهمي لا تعني بث إشارات عشوائية، بل تُجسّد عملية خداع موجهة: يقوم النظام بتحليل الإشارة الرادارية القادمة من F-35، ثم يبث آلاف الأصداء الزائفة التي تُحاكي طائرات أو صواريخ حقيقية بدقة تخدع حتى خوارزميات التمييز المتطورة.
هذا التكتيك يُحدث نتيجتين قاتلتين:
إرهاق حوسبي: يفرض ضغطًا مهولًا على معالج البيانات في الطائرة، الذي يحاول عبثًا التمييز بين الأهداف الزائفة والحقيقية، ما قد يشل منظومة إدارة المعركة.
حمل معرفي مفرط (Cognitive Overload): أمام شاشة مليئة بالتهديدات الزائفة، يجد الطيار نفسه عاجزًا عن اتخاذ قرارات سريعة، ما يقلل من ثقته بأنظمة طائرته، بل قد يدفعه لاتخاذ قرارات خاطئة أو التراجع التكتيكي.
ثانيًا: نموذج الجيل السادس – دمج الاستشعار، والاتصال، والهجوم
تشير الدراسة المنشورة في مجلة Acta Optica Sinica إلى أن الإنجاز الأبرز لا يكمن فقط في القدرة على التشويش، بل في بناء نظام متكامل متعدد الوظائف يدمج بين الاتصالات، والرادار، ومهام الحرب الإلكترونية في وحدة تشغيلية واحدة.
أبرز خصائص هذا النظام هو تحقيق مبدأ “الاتصال الثنائي الكامل” (Full-Duplex Communication)، أي القدرة على الإرسال والاستقبال في نفس التردد وفي ذات اللحظة. ولتبسيط الأمر: تُشبه الأنظمة التقليدية شخصًا لا يستطيع التحدث والاستماع في آنٍ، إما ينصت أو يتحدث. أما النظام الجديد فيمكنه “الإصغاء” لرادار العدو و”الرد عليه تشويشيًا” في اللحظة ذاتها.
ووفقًا لتقارير معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS)، فإن هذه القفزة تقلص زمن الرد إلى الصفر تقريبًا، ما يمنح الصين ميزة تفوق في بيئات القتال الديناميكية.
وليس ذلك فقط. فالنظام يعمل كذلك كمركز اتصالات ميداني فائق السرعة، قادر على نقل بيانات ساحة المعركة إلى أكثر من 300 منصة قتالية في وقت شبه آني. هذا يُترجم فعليًا إلى تبنٍ متقدم لمفهوم “الحرب الشبكية المركزية” (Network-Centric Warfare) الذي كان أساس العقيدة الأمريكية منذ عقود. بذلك، تتحول الصين إلى لاعب قادر ليس فقط على تحييد الخصم، بل على قيادة هجوم شبكي متكامل ومترابط.
ثالثًا: التداعيات الاستراتيجية – نهاية أفضلية الجيل الخامس؟
إن تأثيرات هذه القفزة التقنية تطال العمق الاستراتيجي للعقيدة الغربية في الهيمنة الجوية:
انكشاف فلسفة الشبح: طائرات F-35 وF-22 تمثل ذروة ما استثمرت فيه الولايات المتحدة لعقود. غير أن هذا النظام الصيني يطرح سؤالًا وجوديًا: ما جدوى مقاتلة شبحية تتجاوز كلفتها 100 مليون دولار إذا أمكن خداعها برادار أرضي؟
نجاح استراتيجية “التفوق غير المتكافئ”: بينما تراهن واشنطن على تكنولوجيا فائقة الكلفة، تلعب بكين بورقة “التحييد الذكي بأدوات أقل تكلفة”. التحكم في البيئة الكهرومغناطيسية يتفوق اقتصاديًا واستراتيجيًا على السيطرة الفيزيائية في السماء.
التفوق في معركة المعايير: امتلاك الصين لأكبر عدد من براءات الاختراع في تقنيات 6G—كما ذكرت South China Morning Post—يمنحها دور المُشرّع التكنولوجي العالمي، مما يعني تأثيرًا يتجاوز ساحة المعركة إلى ساحة النفوذ الاقتصادي والسياسي.
رابعًا: الاستجابة الغربية – سباق التسلح القادم
لن تبقى الولايات المتحدة وحلفاؤها مكتوفي الأيدي. فالمتوقع هو:
تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي العسكري: لتصميم خوارزميات قادرة على فرز الأهداف الحقيقية من الزائفة في أجزاء من الثانية، دون إرهاق النظام.
الاستثمار في رادارات جديدة خارجة عن نطاق الترددات التقليدية، مثل الرادار الكمومي أو أنظمة الاستشعار البصرية، لمواجهة مخاطر التشويش الترددي.
رفع قدرات الحرب الإلكترونية الهجومية: عبر تصميم أنظمة قادرة على تعطيل البنية الأرضية للأنظمة الصينية نفسها.
المعركة الآن تتجه نحو من يحسم أسرع “حلقة القرار” (Observe–Orient–Decide–Act). ومن يبطّئ خصمه في هذه الحلقة يُحقق التفوق.
خاتمة: عصر الطيف لا الحديد
النظام الصيني الجديد لا يُعد تطورًا تقنيًا فحسب، بل هو إعادة تعريف شاملة لمنطق الحرب المعاصرة. فقد انتقل ميزان القوة من منصات الشبح التي يصعب رصدها إلى أنظمة “تتحكم في الرؤية ذاتها” — أي في الطيف الكهرومغناطيسي الذي يحكم الإدراك القتالي برمته.
لقد أثبتت بكين أنها لا تحتاج لمحاكاة التفوق الغربي بندّية، بل يمكنها عبر تفكير غير تقليدي أن تعيد صياغة قواعد