بينما تتوجه أنظار العالم من المهتمين والمتابعين إلى لاهاي، العاصمة التي لطالما عرفة بمقر العدالة الدولية، تزدحم فيها اليوم عدسات الكاميرات وضجيج المراسلين الباحثين عن سبق صحفي أو خبر يرصدونه من أروقة وقاعات قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
الحدث الاضخم والاكبر الذي تنظمه لاهاي .
القمة التي تستمر يومين في “المنتدى العالمي” من لاهاي، للمرة الأولى في هولندا منذ تأسيس الحلف عام 1949، تأتي في توقيت حرج، على وقع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا وتصاعد التحديات الأمنية العالمية.
والسؤال الذي يطرحه المراقبون هل هذه مجرد قمة دورية من عشرات القمم السابقة تنضم بدورها إلى سجل الحلف العسكري، أم تبدو وكأنها ورشة إعادة تشكيل لهوية الناتو، ليس فقط من حيث تموضعه الجيوسياسي، بل من حيث فلسفته وبُنية خطابه.
في ردهات “المنتدى العالمي”، لم يكن لافتتاح الجلسات كثير من طقوس المجاملات.
جاء كل طرف محمّلاً بأرقامه، ومخاوفه، وجداول إنفاقه العسكري. أما ما جمعهم، فكان إجماعهم على أن الحلف يعيش لحظة لا تشبه ما سبق. لحظة مشبعة بالتوترات، تفيض بالوعود، وتختنق بالأسئلة المؤجلة.
لغة السلاح في زمن القلق
في إطلالته كأمين عام لحلف الناتو، اختار مارك روته أن يضع الأمور في نصابها من الدقيقة الأولى. حين قال: “نحن بحاجة إلى الإنتاج، وبسرعة”. لم يتحدث عن تسويات، ولا عن نزع للتصعيد، بل ذهب مباشرة إلى جوهر خطابه: الدبابات، أنظمة الدفاع، ومخازن الذخيرة. ما تبع ذلك كان أكثر جرأة: اقتراح برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة عضو، متجاوزًا عتبة الـ2% التي ظلت لسنوات محل أخذ ورد داخل الحلف.
روته لم يقف عند عتبة الخطاب، بل كشف عن خطط مضاعفة القدرات الدفاعية خمس مرات، وتوسيع القواعد اللوجستية، وضخ مليارات الدولارات في خزائن الصناعة الحربية. بدا واضحًا أن الحلف لا يسعى فقط إلى مواجهة التهديدات، بل إلى بناء بنية تحتية دائمة لاقتصاد الحرب.
أوكرانيا على الهامش
في خلفية هذا الخطاب الحديدي، جاءت مشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خافتة. حضر مأدبة الاستقبال، وغاب عن الاجتماعات المحورية. بينما أعلن الحلف عن حزمة دعم جديدة لكييف بقيمة 35 مليار يورو، شعر كثير من المتابعين بأن الملف الأوكراني بدأ يتراجع على جدول الأولويات.
فهل يعكس ذلك حقيقة أن الحلف بات يُعيد صياغة تحركاته بعيدًا عن الجبهة الشرقية؟ وهل باتت أوكرانيا، بعد كل ما واجهته، أقرب إلى ورقة تفاوض منها إلى مشروع استراتيجي دائم؟
ترامب… عودة بلكنة المحاسبة
اللافت أن نبرة الرئيس الأميركي ، دونالد ترامب، عادت لتتصدّر مسرح القمة. ففي تغريدة نشرها قبيل انطلاق الاجتماع، ألمح إلى أن القمة ستكون “أكثر هدوءًا من حرب إسرائيل وإيران”، ثم عاد ليُهاجم ما وصفه بـ”تقصير بعض الحلفاء”، وفي مقدمتهم إسبانيا، في تلبية متطلبات الإنفاق الدفاعي.
رسالة ترامب لم تكن موجهة إلى خصوم الحلف، بل إلى داخله: الحليف ليس من يقف بجانبك دبلوماسيًا، بل من يدفع نصيبه من الفاتورة. إنها لحظة تعكس تحوّل الحلف من منظومة أمن جماعي إلى تكتل محسوب على قاعدة المدفوعات، لا المبادئ.
نحو تحالف إنتاجي–عسكري
إذا كانت الرسائل قد وُضعت بعناية، فالرسائل الضمنية بدت أكثر وضوحًا: الناتو اليوم لا يُبنى فقط على مفهوم الردع التقليدي، بل على هندسة اقتصادية–صناعية معقّدة تُغذّي ماكينة الدفاع، وتُنتج الحماية كما تُنتج الوظائف والنمو.
والقمة، بمشهدها هذا، لم تُخفِ انزياحها نحو مفهوم “الردع المُستدام”: حيث تلتقي الجغرافيا بالصناعة، وتتماهى السياسة مع سلاسل التوريد. توسّع في التعاون مع دول المحيطين الهندي والهادئ، رسائل حازمة لروسيا، وقلق مضمَر من دور الصين. كل ذلك يرسم صورة حلف لم يعُد مكتفيًا بحماية أعضائه، بل يسعى إلى إدارة توازن عالمي جديد.
غياب الأسئلة… الحاضر الأكبر
رغم كل هذه الإعلانات والخطط، كان الغائب الأكبر عن الطاولة هو السؤال الصعب: ما الهدف من هذا كله؟ هل الناتو بصدد التصدي لعدو محدّد؟ أم أنه يؤسس لحالة دائمة من التوتر تبرّر استمرار التوسّع العسكري؟
وأين صوت الشعوب في خضم هذه الاصطفافات؟ من الذي يسأل: كم تكلفة هذا السباق، ومَن يدفع ثمنه؟ وهل ما يُقدَّم باسم الأمن الجماعي يحصّن السلام أم يؤجّل اندلاع نزاعات أكبر؟
في الخلاصة: تحالف يبحث عن ذاته
قمة لاهاي، بهذا الشكل، تبدو أكثر من مجرد حدث دبلوماسي أو لحظة سياسية. إنها مرآة لقلق جمعي يعيشه الحلف، ومحاولة لإقناع الذات والآخر أن “التهديد” ما زال قائمًا، وأن الردع ما زال ضرورة.
لكن، في الوقت الذي يتحوّل فيه الناتو تدريجيًا إلى مؤسسة إنتاج أمني دولية، تصبح الحاجة ماسّة لطرح سؤال أخلاقي، قبل أن يكون استراتيجيًا: هل يمكن للحلف أن يحمي أمن العالم، وهو يسير بخطى ثابتة نحو عسكرة العلاقة مع هذا العالم؟
إن الناتو، الذي وُلد من رحم حرب عالمية مدمّرة ليحمي السلام، قد يُخشى أن يجد ذاته، بعد سبعة عقود، يبحث عن مبرّرات وجوده في صناعة الخوف لا صناعته للثقة.
في النهاية الأعضاء الأوروبيون يدركون أن زيادة الإنفاق الدفاعي هو ثمن ضمان استمرار التزام الولايات المتحدة بأمن القارة، وإن إبقاء الولايات المتحدة في المشهد يعني السماح لترامب بأن يكون قادرا على إعلان الفوز بمطلبه المتمثل في نسبة 5 بالمئة خلال القمة
لن تكون عودة الملياردير الجمهوري دونالد ترامب للرئاسة الأميركية مجرد مرحلة جديدة بالنسبة للأوروبيين، بل قد تهدد استقرار العلاقة التي تشكل الركيزة الأساسية لأمن القارة العجوز. فقد توعد مرارا بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) العسكري، ولوّح بتشجيع روسيا على فعل “ما تريد” للدول التي لا تفي بالتزاماتها المالية، حينما قال: “لن أحميكم”