مقدمة
يمثل اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بنظيره التركي رجب طيب أردوغان على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الرابع، منعطفًا دبلوماسيًا يحمل في طياته دلالات وإمكانيات تستدعي التحليل المعمق. يأتي هذا اللقاء في سياق علاقات سورية-تركية شهدت توترات عميقة وتقاطعات معقدة على مدار سنوات الأزمة السورية، مما يضفي على مجرد انعقاده أهمية خاصة. تهدف هذه الورقة التحليلية إلى تفكيك أبعاد هذا الحدث، واستكشاف مضامينه المحتملة على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، معتمدة بشكل حصري على المعلومات الواردة في التغطية الإخبارية الأولية للقاء والنشاطات الدبلوماسية المصاحبة له. تسعى الورقة إلى الإجابة عن أسئلة جوهرية حول طبيعة التفاهمات المنشودة، ودلالات الخطاب السياسي المرافق، وأثر هذا التقارب المحتمل ضمن مشهد إقليمي ودولي متغير. سنقوم بتحليل الأجندة المعلنة للقاء، وتصريحات الرئيس التركي، والحراك الدبلوماسي السوري الموازي، وصولًا إلى استشراف الآفاق المستقبلية والتحديات الكامنة في مسار تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة.
أولًا: سياق اللقاء ودلالات المكان والزمان
إن مجرد انعقاد لقاء على مستوى القمة بين الرئيسين السوري والتركي يعد بحد ذاته تطورًا لافتًا، نظرًا لتاريخ العلاقات المتوتر بين البلدين خلال العقد الماضي، والذي اتسم بالتدخل العسكري التركي المباشر في الشمال السوري ودعم أنقرة لفصائل المعارضة السورية. اختيار منتدى أنطاليا الدبلوماسي كإطار لهذا اللقاء يحمل دلالات متعددة؛ فهو يوفر منصة دولية متعددة الأطراف تتيح إجراء محادثات ثنائية على الهامش، مما قد يخفف من الضغوط أو الحساسيات التي قد ترافق لقاءً ثنائيًا رسميًا منعزلًا. كما يشير توقيت اللقاء، في النسخة الرابعة للمنتدى، إلى أن الظروف الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى الحسابات الداخلية لكلا البلدين، قد نضجت إلى درجة تسمح بمثل هذه الخطوة المتقدمة.
حضور وزيري خارجية البلدين، أسعد الشيباني وهاكان فيدان، يؤكد على الطابع الرسمي والجاد للمحادثات، ويشير إلى أن اللقاء لم يكن مجرد مصافحة بروتوكولية، بل استهدف الخوض في ملفات جوهرية تتطلب متابعة فنية ودبلوماسية على مستوى وزاري. يمكن قراءة هذا اللقاء باعتباره تتويجًا لمسار غير معلن من الاتصالات التمهيدية، أو بداية لمرحلة جديدة تتسم بالبراغماتية والبحث عن نقاط التقاء ممكنة، حتى وإن ظلت الخلافات الجوهرية قائمة. إن وصف اللقاء بأنه “قد يؤسس لتفاهمات جديدة” يعكس الطبيعة الاستكشافية والحذرة لهذه المرحلة، حيث لا تزال النتائج غير مؤكدة، لكن النية في فتح صفحة جديدة تبدو واضحة من مجرد عقد الاجتماع بهذا المستوى الرفيع.
ثانيًا: تفكيك الأجندة المعلنة: ثلاثية الأمن والسيادة والاقتصاد
يكشف البيان المقتضب لوزارة الخارجية السورية عن المحاور الرئيسية التي تم التطرق إليها، وهي تمثل جوهر الإشكالية التاريخية والمعاصرة في العلاقات الثنائية: “مستقبل الوجود التركي في شمال سوريا، وآفاق إعادة ترتيب الوضع الحدودي بما يراعي السيادة السورية، ويضمن المصالح الأمنية لأنقرة”. هذا المحور يكثف التحدي الأكبر: كيفية التوفيق بين مطلب سوري أساسي يتعلق بوحدة أراضيها وسيادتها الكاملة عليها، وبين هاجس أمني تركي عميق يتعلق بنشاط المجموعات الكردية المسلحة على حدودها، والذي شكل المبرر الرئيسي لعملياتها العسكرية في سوريا.
إن عبارة “إعادة ترتيب الوضع الحدودي” توحي بالبحث عن صيغة وسط، قد لا تعني بالضرورة انسحابًا تركيًا فوريًا وكاملاً، بقدر ما قد تشير إلى تفاهمات أمنية جديدة، أو إعادة انتشار، أو ترتيبات إدارية تراعي مطالب الطرفين. استخدام فعلي “يراعي” و”يضمن” يشير إلى عملية تفاوضية دقيقة تسعى لإيجاد توازن بين السيادة والمصالح الأمنية. هذا التوازن هو مفتاح أي تفاهم مستدام، ولكنه في الوقت نفسه، يمثل العقبة الأكثر صعوبة نظرًا لتجذر المواقف وانعدام الثقة المتبادل تاريخيًا.
إلى جانب الملف الأمني الشائك، تبرز الإشارة إلى “انفتاح واضح على التعاون الاقتصادي بين دمشق وأنقرة”. يمثل هذا البعد نافذة أمل ومصلحة مشتركة محتملة يمكن أن تدفع مسار التفاهمات السياسية والأمنية. سوريا، الخارجة من سنوات حرب مدمرة، بأمس الحاجة إلى الاستثمار وإعادة الإعمار وتنشيط الحركة التجارية، وتركيا، الجار الاقتصادي الكبير، يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في هذا المجال. قد يمثل التعاون الاقتصادي “جزرة” تشجع على تقديم تنازلات متبادلة في الملفات الأكثر تعقيدًا، كما يمكن أن يساهم في بناء جسور الثقة بشكل تدريجي. يبقى السؤال حول مدى إمكانية فصل المسار الاقتصادي عن التعقيدات السياسية والأمنية، ومدى استعدادهما لتجاوز العقوبات الدولية المفروضة على سوريا لتفعيل هذا التعاون.
ثالثًا: قراءة في خطاب أردوغان: رسائل متعددة الاتجاهات
تكتسب كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام المنتدى أهمية خاصة، كونها تقدم إطارًا عامًا للموقف التركي المعلن تجاه سوريا في هذه المرحلة الجديدة. تأكيده على أن “أمن سوريا واستقرارها يشكلان جزءًا لا يتجزأ من أمن تركيا” هو موقف تركي تقليدي، لكن تكراره في هذا السياق وبعد لقائه الشرع يكتسب وزنًا إضافيًا. إنه يربط بشكل عضوي بين مصير البلدين، ويبرر الاهتمام التركي العميق بالشأن السوري، وفي الوقت نفسه، يمكن قراءته كتأكيد على أن أي ترتيبات مستقبلية في سوريا يجب أن تأخذ المخاوف الأمنية التركية بعين الاعتبار.
رفضه القاطع لأي “محاولات لجرّ سوريا إلى صراع جديد” وتحذيره لمن “ينوي إشعال الساحة السورية” يمثل رسالة متعددة الاتجاهات. قد تكون موجهة إلى أطراف داخلية سورية تسعى لتقويض أي تسوية، أو إلى قوى إقليمية أو دولية قد ترى في استمرار حالة عدم الاستقرار مصلحة لها. كما أنها تعكس رغبة تركية في تثبيت الوضع الحالي وتجنب المزيد من الاضطرابات على حدودها الجنوبية، والتي قد تكون لها تداعيات سلبية على الداخل التركي. التأكيد على معاناة سوريا من الحرب يحمل جانبًا إنسانيًا، ولكنه أيضًا يخدم التوجه التركي نحو تفضيل الحلول السياسية (وفق الرؤية التركية) على المواجهات العسكرية المفتوحة في هذه المرحلة.
التأكيد على التزام أنقرة “بالحوار والحلول السلمية” يأتي لتعزيز صورة تركيا كطرف يسعى للاستقرار. الأهم من ذلك هو إشارته إلى التواصل الوثيق مع الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين “للحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها”. هذه الإشارة تكشف بوضوح إدراك أنقرة بأن الملف السوري هو ملف دولي بامتياز، وأن أي تفاهمات سورية-تركية ثنائية يجب أن تحظى، على الأقل، بعدم ممانعة القوى الكبرى الفاعلة في الساحة السورية. إنها تضع تركيا كوسيط أو لاعب محوري قادر على التحدث مع واشنطن وموسكو، مما يعزز من أهميتها الاستراتيجية في أي ترتيبات مستقبلية.
رابعًا: الحراك الدبلوماسي السوري الموازي: استراتيجية تنويع الشراكات
لم يقتصر النشاط الدبلوماسي السوري في أنطاليا على اللقاء المحوري مع أردوغان، بل شهد سلسلة لقاءات أجراها الرئيس الشرع تعكس استراتيجية سورية واضحة المعالم في هذه المرحلة، تتمثل في الانفتاح وتوسيع دائرة العلاقات الإقليمية والدولية، وعدم حصر الرهان على محور واحد.
اللقاء مع رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، يكتسب أهمية خاصة بالنظر إلى الدور القطري خلال سنوات الأزمة السورية، والذي كان غالبًا على خلاف مع دمشق. مناقشة ملفات “التعاون في قطاع الطاقة والدعم السياسي لوحدة سوريا” تشير إلى تحول براغماتي في علاقات البلدين. حاجة سوريا الملحة لموارد الطاقة والاستثمار تجعل من قطر شريكًا محتملاً ذا وزن، بينما يمثل التأكيد القطري الرسمي على “دعم سيادة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها” مكسبًا دبلوماسيًا هامًا لدمشق، ويعكس ربما تغيرًا في الأولويات القطرية تجاه سوريا.
اللقاء مع رئيسة كوسوفو، فيوسا عثماني، يحمل طابعًا رمزيًا وسياسيًا. الإشارة إلى تشارك “جراح الحرب وتحديات بناء السلام” تخلق رابطًا إنسانيًا، بينما يعكس إعلان استعداد كوسوفو لمشاركة تجربتها في بناء الدولة انفتاحًا سوريًا على الاستفادة من تجارب دول أخرى مرت بظروف مشابهة، حتى وإن كانت تلك الدول لا تنتمي إلى المحاور التقليدية الحليفة لدمشق.
اجتماعات الشرع مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة تندرج في إطار ما وصفته وزارة الخارجية السورية بـ”تنويع الشراكات الثنائية والانفتاح على محاور إقليمية غير تقليدية”. هذا يؤكد سعي دمشق لكسر العزلة، وبناء علاقات متعددة الأوجه تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية، وتمنحها هامشًا أوسع للمناورة في بيئة إقليمية معقدة.
أخيرًا، يأتي تصريح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، الذي يعبر عن دعم بغداد للتسوية السياسية الشاملة ومتابعتها الحثيثة للحراك الإقليمي والدولي، ليؤكد على العمق العربي للقضية السورية وأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه دول الجوار، مثل العراق، في دعم الاستقرار وتسهيل الحلول السياسية. هذا الدعم يكتسب أهمية إضافية كونه يأتي من دولة عانت هي الأخرى من ويلات الصراع وتدرك أهمية التسوية السياسية والاستقرار الإقليمي.
بالمجمل، يرسم هذا الحراك الدبلوماسي المكثف صورة لسوريا جديدة تسعى لاستعادة دورها الإقليمي، مع التركيز على الأولويات الاقتصادية وتعزيز مبدأ السيادة الوطنية، وتبني نهج أكثر مرونة وتنوعًا في علاقاتها الخارجية.
خامسًا: الآفاق المستقبلية والتحديات الكامنة
إن لقاء أنطاليا يفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة لمستقبل العلاقات السورية-التركية. في أفضل الأحوال، قد يمثل هذا اللقاء بداية لعملية تفاوضية جادة ومثمرة تؤدي إلى:
خفض التصعيد العسكري والأمني: التوصل إلى ترتيبات أمنية جديدة في الشمال السوري تقلل من الاحتكاك وتضمن أمن الحدود التركية بشكل يرضي أنقرة، مقابل خطوات نحو إعادة بسط السيادة السورية تدريجيًا.
تطبيع سياسي تدريجي: إعادة العلاقات الدبلوماسية، وتنسيق المواقف تجاه بعض القضايا الإقليمية.
تعاون اقتصادي ملموس: تفعيل الاتفاقيات التجارية، وفتح المعابر الحدودية بشكل أوسع، ومساهمة تركية محتملة في إعادة الإعمار، مما يخفف من الضائقة الاقتصادية في سوريا.
تأثير إيجابي على مسار الحل السياسي: قد يساهم التقارب السوري-التركي في تليين مواقف بعض أطراف المعارضة السورية المرتبطة بتركيا، ويدفع باتجاه حل سياسي شامل.
لكن الطريق نحو تحقيق هذه السيناريوهات الإيجابية محفوف بالتحديات والعقبات الجوهرية:
انعدام الثقة العميق: سنوات من العداء والتدخل المباشر خلقت هوة كبيرة من انعدام الثقة بين الطرفين يصعب ردمها بسهولة.
الملف الكردي: يمثل الموقف من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والمخاوف الأمنية التركية المرتبطة بها عقدة أساسية. أي اتفاق يتجاهل هذه المخاوف لن يكون مقبولاً لتركيا، وأي حل يرضي تركيا قد لا يكون مقبولاً لأطراف سورية أخرى أو حتى لداعمي “قسد” الدوليين (خاصة الولايات المتحدة).
مستقبل الوجود التركي: التفاوض حول “إعادة ترتيب” الوجود التركي سيكون شائكًا للغاية. دمشق سترغب بجدول زمني واضح للانسحاب الكامل، بينما قد تسعى أنقرة لضمانات أمنية قوية وملموسة قبل أي تغيير جوهري على الأرض.
دور القوى الخارجية: كما أشار أردوغان، فإن مواقف الولايات المتحدة وروسيا (وإيران أيضًا، التي لم تُذكر في النص) ستكون حاسمة. أي تفاهم ثنائي قد يتعارض مع مصالح هذه القوى قد يواجه صعوبات كبيرة في التنفيذ.
المعارضة السورية: موقف الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا سيكون عاملاً مؤثرًا. هل ستقبل بأي تفاهم بين دمشق وأنقرة؟ وكيف سيتم التعامل مع مصير المناطق الخاضعة لسيطرتها؟
العقوبات الدولية: تظل العقوبات المفروضة على سوريا عائقًا كبيرًا أمام أي تعاون اقتصادي واسع النطاق، حتى لو توفرت الإرادة السياسية لدى دمشق وأنقرة.
خاتمة
يعد لقاء الرئيسين السوري أحمد الشرع والتركي رجب طيب أردوغان في أنطاليا حدثًا دبلوماسيًا بارزًا يشير إلى تحول محتمل في ديناميكيات المنطقة. إنه يعكس تقاطعًا للمصالح والحسابات البراغماتية لدى الطرفين، ورغبة في استكشاف مسارات جديدة تتجاوز حالة الجمود والعداء التي سادت لسنوات. الأجندة المعلنة، التي تركز على التوفيق بين السيادة السورية والمصالح الأمنية التركية مع فتح الباب للتعاون الاقتصادي، تلخص جوهر التحدي وفرص النجاح المحتملة. خطاب الرئيس أردوغان يؤكد على مركزية الملف السوري لأمن تركيا وعلى أهمية التنسيق مع القوى الدولية الكبرى. في الوقت نفسه، يكشف الحراك الدبلوماسي السوري الموازي عن استراتيجية جديدة لدمشق تهدف إلى تنويع الشراكات وكسر العزلة، مع التركيز على المصالح الاقتصادية وتأكيد السيادة.
ومع ذلك، فإن الطريق نحو تفاهمات حقيقية ومستدامة لا يزال طويلاً ومليئًا بالعقبات. يتطلب الأمر تجاوز إرث ثقيل من انعدام الثقة، وإيجاد حلول مبتكرة للقضايا الشائكة كالملف الكردي ومستقبل الوجود العسكري التركي، والأهم من ذلك، يتطلب توافقًا أو على الأقل عدم ممانعة من القوى الإقليمية والدولية الفاعلة. إن لقاء أنطاليا هو بمثابة فتح لباب مغلق، لكن عبور هذا الباب والدخول إلى مرحلة جديدة من العلاقات المستقرة يتوقف على نوايا الطرفين وقدرتهما على ترجمة الكلمات الدبلوماسية الحذرة إلى خطوات عملية وملموسة على الأرض. تبقى الأشهر القادمة حاسمة لمراقبة ما إذا كان هذا المسار سيترسخ أم سيتعثر بفعل التحديات الكامنة.
المراجع
بيان وزارة الخارجية السورية (عبر منصة “تلغرام”)، (التاريخ يُفترض أنه يوم انعقاد اللقاء في أنطاليا).
كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام منتدى أنطاليا الدبلوماسي الرابع، (التاريخ يُفترض أنه يوم انعقاد اللقاء أو قريب منه).
بيان رسمي قطري، (صدر يوم الجمعة، تاريخ انعقاد اللقاء).
بيان وزارة الخارجية العراقية، (التاريخ يُفترض أنه مقارب لتاريخ انعقاد اللقاء)