يمثل القرار الذي تبناه مجلس الشيوخ الأمريكي في السابع من يونيو 2025، بشطب سوريا من قائمة “الدول المارقة”، نقطة تحول جيوسياسية لا يمكن النظر إليها كخطوة معزولة أو كمجرد تنازل دبلوماسي. يقدم هذا التحليل قراءة نقدية للقرار، منطلقًا من فرضية مركزية مفادها أن هذه الخطوة ليست مكافأة لنظام دمشق، بل تعبير عن إفلاس سياسة العزل العقابية، وتدشين لعقيدة أمريكية جديدة يمكن تسميتها بـ “إعادة الدمج التنافسي” (Competitive Reintegration)، حيث تهدف واشنطن إلى الانتقال من محاولة تغيير النظام من الخارج إلى التأثير على سلوكه من الداخل، والأهم من ذلك، منافسة النفوذين الروسي والإيراني عبر أدوات الدبلوماسية والاقتصاد التي لا يمتلكها الخصمان.
تفكك هذه الورقة الأبعاد العميقة لهذا التحول، محللةً دوافعه التي تتجاوز المصالح التكتيكية إلى ضرورة استراتيجية لإعادة تشكيل التوازنات في المشرق. كما تستشرف التداعيات المحتملة ليس فقط على سوريا والولايات المتحدة، بل على الخريطة الجيوسياسية الإقليمية برمتها، بما في ذلك أمن إسرائيل، ودور تركيا، وطموحات دول الخليج. وتخلص الورقة إلى أن واشنطن تدخل في مقامرة استراتيجية عالية المخاطر، توازن فيها بين تحقيق مكاسب جيوسياسية محتملة وبين تكاليف أخلاقية باهظة، في محاولة لاستعادة زمام المبادرة في منطقة ظن الكثيرون أنها قد غادرتها.
الإطار الاستراتيجي: من العزلة الفاشلة إلى الاشتباك المشروط
لفهم عمق القرار، يجب الإقرار أولًا بأن سياسة عزل سوريا وعقابها عبر أدوات مثل “قائمة الدول المارقة” و”قانون قيصر” وصلت إلى طريق مسدود. هذه السياسة:
لم تغير سلوك النظام بل دفعته إلى تعميق تحالفاته مع موسكو وطهران.
خلقت فراغًا استراتيجيًا استغلته القوى المناهضة للولايات المتحدة، مما حول سوريا إلى منصة متقدمة تهدد المصالح الأمريكية وحلفاءها الإقليميين.
أدت إلى كارثة إنسانية دون تحقيق الأهداف السياسية المرجوة، مما أضعف الموقف الأخلاقي للسياسة الأمريكية.
من رحم هذا الفشل، يولد التوجه الجديد. القرار ليس عفوًا أو صفحًا، بل تصريح بالانتقال من سياسة “الضغط الأقصى” (Maximum Pressure) إلى “الاشتباك المشروط” (Conditional Engagement). فالفلسفة الكامنة وراء هذا النهج هي أن التأثير الحقيقي لا يأتي من المقاطعة، بل من الحضور والمنافسة، وامتلاك أوراق ضغط مباشرة في الحوار مع دمشق.
تفكيك الحسابات الأمريكية: عقيدة “إعادة الدمج التنافسي”
لا يمكن فهم الدوافع الأمريكية من خلال قراءة سطحية للأهداف المعلنة، بل عبر تحليل الاستراتيجية الكامنة وراء القرار:
تفكيك المحور (روسيا-إيران-سوريا): تهدف واشنطن إلى خلق شروخ داخل هذا المحور عبر تقديم بدائل اقتصادية ودبلوماسية لسوريا، لإضعاف النفوذ الإيراني وتحجيم الدور الروسي في المنطقة.
استعادة النفوذ بأقل تكلفة: في ظل تركيز الولايات المتحدة على احتواء الصين، تبحث واشنطن عن طرق لإدارة أزمات الشرق الأوسط بأقل تكلفة ممكنة. إعادة فتح القنوات الدبلوماسية مع دمشق يوفر نفوذًا أكبر من نشر القوات العسكرية أو فرض عقوبات جديدة.
إدارة أمن الحلفاء: خاصة إسرائيل والأردن، حيث ترى واشنطن أن الحوار المباشر مع دمشق قد يوفر آليات لضبط النفوذ الإيراني، وهو أمر فشلت الغارات الجوية الإسرائيلية وحدها في تحقيقه بشكل كامل.
المنظور السوري: مناورة البقاء وإعادة التموضع
من جانبها، لا تنظر دمشق إلى القرار الأمريكي كهدية، بل كفرصة تكتيكية ضمن استراتيجيتها للبقاء. أبرز أهدافها:
اكتساب الشرعية الدولية: شطب اسم سوريا من القائمة يمنح النظام اعترافًا سياسيًا ويسهل عودة السفراء الأوروبيين وتطبيع العلاقات دوليًا.
الإنقاذ الاقتصادي: جذب استثمارات خليجية لتمويل إعادة الإعمار يتطلب تخفيف القيود الأمريكية ورفع العقوبات بشكل تدريجي.
استعادة أوراق اللعبة الإقليمية: العودة لدور لاعب محوري في المشرق، والتوازن بين القوى المختلفة بدلاً من أن تكون سوريا مجرد تابع لمحور واحد.
التداعيات الجيوسياسية: إعادة رسم خريطة التحالفات في المشرق
يؤدي القرار الأمريكي إلى تحولات رئيسية في المشهد الإقليمي:
على الساحة الإسرائيلية: يضع القرار إسرائيل أمام معضلة، حيث قد يساعد في تقليص النفوذ الإيراني لكنه في الوقت نفسه يعزز مكانة نظام الأسد سياسيًا.
على الساحة التركية: قد تستخدم سوريا الشرعية الدولية المكتسبة للضغط على أنقرة بخصوص وجودها العسكري في الشمال السوري.
دور دول الخليج: القرار يمنح الدول الخليجية، التي قادت مسار التطبيع مع سوريا، دورًا رئيسيًا في إعادة الإعمار، مما يزيد نفوذها في دمشق على حساب إيران.
موقف روسيا وإيران: ستنظر موسكو وطهران إلى القرار بريبة، فهو يمثل تهديدًا طويل الأمد لنفوذهما الحصري داخل سوريا، رغم أنه قد يوفر لهما فرصة لتخفيف العبء الاقتصادي.
التوصيات الاستراتيجية في عصر “الاشتباك المشروط”
لضمان نجاح هذه الاستراتيجية، يجب اتخاذ خطوات دقيقة:
للولايات المتحدة:
اعتماد خارطة طريق تدريجية تربط رفع العقوبات بخطوات سورية ملموسة، مثل تقييد الميليشيات الإيرانية.
تنسيق دولي واسع عبر تشكيل مجموعة اتصال تضم دولًا أوروبية وخليجية لإدارة عملية إعادة دمج سوريا.
لسوريا:
تقديم إشارات استراتيجية واضحة لضمان التزامها بالتوازن الجديد في سياساتها الإقليمية.
تحسين الحوكمة الاقتصادية لجذب استثمارات حقيقية وضمان شفافية أموال إعادة الإعمار.
مقامرة الواقعية السياسية
إن قرار شطب سوريا من قائمة “الدول المارقة” ليس نهاية القصة، بل بداية فصل جديد ومعقد. إنه يعكس إدراكًا أمريكيًا بأن التأثير في القرن الحادي والعشرين يتطلب المرونة والقدرة على الحوار حتى مع الخصوم، وأن ترك الساحات السياسية فارغة أمام المنافسين هو الخيار الأكثر تكلفة على المدى الطويل. مستقبل المشرق العربي قد يتشكل في السنوات القادمة ليس بقوة السلاح، بل بمدى نجاح هذه المقامرة الدبلوماسية الدقيقة.