مآلات القوة وتوازنات ما بعد الضربة: تشريح المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط عقب تحييد القدرة النووية الإيرانية
تحليل الموقف الراهن: تشريح تداعيات الصدمة
ملخص تنفيذي, تتناول هذه الورقة بالتحليل المعمّق التداعيات الجيوسياسية الناشئة عن الحدث المفصلي المتمثل في تدمير البنية التحتية للمشروع النووي الإيراني، وما أعقبه من فرض اتفاق لوقف إطلاق النار بين طهران وتل أبيب برعاية أمريكية. إن هذا التطور النوعي لا يمثل مجرد ضربة عسكرية، بل هو بمثابة “صدمة استراتيجية” (Strategic Shock) عنيفة، أفضت إلى تفكيك إحدى أهم ركائز النظام الإقليمي القائم منذ عقود، وأطلقت ديناميكيات جديدة شديدة التعقيد. يستعرض هذا التقدير، بالاستناد إلى نظريات العلاقات الدولية وتقارير مراكز الفكر المعتبرة، الأثر المباشر على الفاعلين المحوريين، ويقدم تشريحًا دقيقًا لثلاثة مسارات مستقبلية محتملة: سيناريو “الاستقرار تحت التهديد”، وسيناريو “التفكك المُعدِي”، وسيناريو “الارتداد الكارثي”. وتُختتم الورقة بتقديم حزمة من الخيارات الاستراتيجية الموجهة إلى صناع القرار، تهدف إلى تمكينهم من الإبحار في خضم هذه المرحلة الحرجة بأكبر قدر من الفعالية والكفاءة.
مقدمة: نهاية حقبة وبزوغ فجر غامض
لم يعد الشرق الأوسط الذي نعرفه قائمًا. لقد أُسدِل الستار بالقوة على حقبة “الردع غير المستقر” التي طبعت العلاقات الإقليمية، وبُشِّرَ بفجر أخرى لا تزال ملامحها غامضة ومحفوفة بالفرص بقدر ما هي مشحونة بالمخاطر. إن تدمير المشروع النووي الإيراني لا يعني انتهاء التهديد الإيراني، بل تحوّله وتغيّر طبيعته. لقد انتقلت المواجهة من نطاق السعي لامتلاك القوة المطلقة إلى نطاق إدارة تداعيات فقدانها.
تستخدم هذه الورقة القوة التفسيرية لمفاهيم مثل “الدبلوماسية القسرية” و”فراغ القوة” لتحليل هذا المشهد المتحول، وتقديم تقدير موقف لا يكتفي بالوصف، بل يغوص في الأسباب ويستشرف المآلات، بهدف إنارة الطريق أمام خيارات سياسية راشدة.
مآلات القوة وتوازنات ما بعد الضربة: تشريح المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط عقب تحييد القدرة النووية الإيرانية
تحليل الموقف الراهن: تشريح تداعيات الصدمة
أ. إيران في مواجهة “معضلة المنتصر المهزوم”
تواجه القيادة الإيرانية مفارقة وجودية؛ فبينما نجت من حرب شاملة، إلا أنها تلقت هزيمة استراتيجية مدوية. هذا الوضع يفرز التداعيات التالية:
على الصعيد الداخلي:
إن تحطيم درّة تاج المشروع العسكري الإيراني لا يمثل مجرد خسارة مادية، بل هو كسر لهيبة الردع التي شكلت أساس شرعية “النظام الثوري” وعقيدته في “المقاومة”. يفتح هذا شرخًا عميقًا داخل بنية السلطة، خاصة بين التيار البراغماتي الذي قد يرى في الاتفاق المفروض طوق نجاة مؤقتًا، وبين المؤسسة العسكرية والأمنية العميقة، وتحديدًا الحرس الثوري، التي قد تعتبره إذعانًا مهينًا يستدعي ردًا انتقاميًا لاستعادة الاعتبار المفقود، ولو بعد حين.
على الصعيد الإقليمي:
تآكل النفوذ الإيراني هو النتيجة الحتمية. وكما يشير تحليل صادر عن “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)”، فإن “قوة الفاعلين من غير الدول (الوكلاء) ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمصداقية الدولة الراعية وقدرتها على توفير غطاء حماية استراتيجي”. ومع تحطيم هذا الغطاء، فإن قدرة إيران على توجيه وكلائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن تضعف بشكل كبير، وتتحول علاقتها بهم من علاقة قيادة وسيطرة إلى علاقة تفاوض وتأثير محدودة.
ب. ميزان القوى الإقليمي: سباق ملء الفراغ
إن الطبيعة، وكذلك السياسة، تمقت الفراغ. إن الانكفاء الإجباري للنفوذ الإيراني سيخلق فراغًا استراتيجيًا تتسابق القوى الإقليمية لملئه:
المملكة العربية السعودية ودول الخليج: يتنفسون الصعداء لتحييد الخطر النووي، لكنهم يواجهون قلقًا مزدوجًا. إنه، كما وصفه أحد المحللين،
“ارتياحٌ محفوفٌ بمخاطر الفوضى على الحدود الشمالية الشرقية، وقلقٌ من أن يكون ثمن هذا التدخل هو هيمنة أمريكية-إسرائيلية مطلقة على أمن الإقليم”.
سيدفعهم هذا إلى مسارين متوازيين: تسريع وتيرة التعاون الأمني والعسكري العلني مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه، محاولة فتح قنوات خلفية مع إيران لاحتواء سلوكها المزعزع للاستقرار في مرحلة ما بعد النووي.
تركيا – اللاعب الانتهازي بامتياز: ستنظر أنقرة إلى هذا التطور باعتباره فرصة ذهبية لتعزيز طموحاتها الإقليمية. فمن المتوقع أن تسعى لترسيخ وجودها العسكري في شمال العراق وسوريا، ومحاولة لعب دور الوسيط المنافس في الساحات التي كانت إيران فاعلة فيها، مستغلةً علاقاتها المعقدة مع كافة الأطراف.
ج. الولايات المتحدة: معضلة الضامن
لقد أثبتت واشنطن قدرتها على فرض إرادتها، لكنها ورّطت نفسها في دور “الضامن” لهذا السلام الهش. وكما تظهر الأدبيات حول الدبلوماسية القسرية، فإن “النجاح لا يكمن في الضربة الأولى، بل في القدرة على إدارة تبعاتها ومنع الطرف المُكره من العودة إلى مساره السابق”. تواجه الولايات المتحدة الآن مهمة شبه مستحيلة: طمأنة إسرائيل بأن التهديد قد زال نهائيًا، وفي الوقت ذاته، تقديم ما يكفي من “المخارج الآمنة” لإيران لمنعها من اختيار خيار الانهيار الكامل أو الانتقام اليائس.
السيناريوهات المستقبلية: ثلاثة مسارات لمستقبل الشرق الأوسط
السيناريو الأول: الاستقرار تحت التهديد (المرجح بنسبة 60%)
التوصيف: ليس سلامًا حقيقيًا، بل هو إدارة طويلة الأمد للصراع بوسائل أخرى. تلتزم الأطراف بالخطوط العريضة لوقف إطلاق النار، لكن المواجهة تستمر في “المناطق الرمادية”: حرب سيبرانية منخفضة الشدة، عمليات اغتيال غامضة، استفزازات بحرية مدروسة في مضيق هرمز، ودعم محدود للميليشيات بالوكالة. المفاوضات حول الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي ستكون ماراثونية وعقيمة في معظمها، لكنها تنجح في منع الانزلاق إلى حرب شاملة.
النتائج:
حالة من الجمود الاستراتيجي تمنع الحرب وتمنع السلام في آن واحد. تصبح المنطقة رهينة التوازنات الدقيقة التي فرضتها الولايات المتحدة، مع بقاء احتمالية الاشتعال قائمة عند أي خطأ في الحسابات.
السيناريو الثاني: التفكك المُعدِي (متوسط الاحتمال بنسبة 25%)
يفشل النظام الإيراني في استيعاب الصدمة، وتؤدي الصراعات الداخلية إلى انهياره أو فقدانه السيطرة على أطراف الدولة. وكما يحذر “معهد كارنيغي للسلام الدولي” في تقاريره حول الدول الهشة، فإن “انهيار دولة مركزية لا يخلق فراغًا، بل يطلق العنان لقوى طاردة مركزية تتنافس بعنف لملئه”. يتحول وكلاء الأمس إلى أمراء حرب اليوم، وتتحول الحدود إلى ممرات لتهريب السلاح والمقاتلين، مما يشعل حرائق أهلية جديدة وينقل عدوى عدم الاستقرار إلى دول الجوار.
النتائج: أزمة إنسانية كبرى، وصعود موجة جديدة من التطرف تستغل الفوضى، وتدخلات إقليمية محدودة لحماية المصالح المباشرة، مما قد يؤدي إلى صراعات بالوكالة أكثر دموية من سابقاتها.
السيناريو الثالث: الارتداد الكارثي (منخفض الاحتمال بنسبة 15%)
التوصيف: يصل الجناح المتشدد في إيران إلى قناعة بأن الهدوء هو فخ، وأن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع. يقوم بتنفيذ هجوم استراتيجي واسع النطاق عبر حزب الله ضد أهداف حيوية في إسرائيل، في محاولة يائسة لقلب الطاولة وفرض معادلة ردع جديدة. يأتي الرد الإسرائيلي-الأمريكي عنيفًا وحاسمًا، وتدخل المنطقة في حرب إقليمية مفتوحة.
النتائج: دمار شامل trasends the imagination، وانهيار أسواق الطاقة العالمية، وتحول الشرق الأوسط إلى ساحة صراع دولي مباشر، مع عواقب ستستمر لأجيال.
الخيارات والتوصيات: نحو استراتيجية وطنية فاعلة
في ضوء ما سبق، فإن أمام صانع القرار الإقليمي خيارات استراتيجية واضحة، نوصي منها بما يلي:
التوصية المحورية: اعتماد “استراتيجية التأطير والتأثير الاستباقي”
يجب تجاوز موقف المراقب أو المتلقي، والانتقال إلى دور الفاعل المؤثر في صياغة مستقبل الإقليم.
الإجراءات:
الانخراط المشروط في المسار التفاوضي: المشاركة بفاعلية في المفاوضات التي ترعاها واشنطن، ليس كطرف ثانوي، بل كشريك يطرح رؤيته ومصالحه، والضغط لضمان أن أي اتفاق نهائي يجب أن يكون “شاملًا ومتكاملًا”، يعالج ملفات الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية بنفس جدية معالجة الملف النووي.
- بناء منظومة أمن إقليمي: تحويل التفاهمات الأمنية الثنائية مع إسرائيل والولايات المتحدة إلى نواة لمنظومة دفاعية إقليمية جماعية، قادرة على تحقيق الردع وخلق توازن قوى مستدام.
- فتح قناة حوار مع “إيران الدولة”: التمييز بين النظام وسلوكه، وبين الدولة ككيان جغرافي وشعبي. يجب فتح قنوات تواصل مع العناصر الأكثر عقلانية في إيران، وتقديم رؤية لمستقبل تكون فيه إيران “دولة طبيعية” في محيطها، مقابل تخليها الكامل عن سياساتها التوسعية.
الخيارات البديلة (الأقل تفضيلًا): - استراتيجية التحصين والترقب الحذر: خيار سلبي يؤدي إلى العزلة، ويترك مصير المنطقة في أيدي الآخرين.
- استراتيجية التصعيد المضاد: مغامرة عالية المخاطر قد تدفع المنطقة مباشرة نحو سيناريو الفوضى أو الحرب الشاملة.
خاتمة:
إن اللحظة الراهنة هي لحظة تاريخية فارقة. إنها نافذة فرص استراتيجية قد لا تتكرر، فإما أن يتم استثمارها بحكمة وجرأة لإعادة هندسة أمن الشرق الأوسط على أسس أكثر استقرارًا وعدالة، وإما أن تُهدَر، لتفتح الباب على مصراعيه أمام مستقبل من الفوضى والحروب التي لن تبقي ولن تذر. إن الاختيار بين هذين المصيرين يقع اليوم على عاتق قادة المنطقة.