مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، لجأ النظام إلى أدوات القمع التقليدية من قتل واعتقال وتعذيب. ومع تطور الصراع، انتقل العنف من استهداف الأفراد جسدياً إلى استهداف الوجود الجماعي والمستقبلي للمعارضين.
يكشف تحقيق صحيفة وول ستريت جورنال حول الاختفاء القسري لآلاف الأطفال عن ممارسة ممنهجة ترمي إلى ما هو أبعد من القتل: المحو التام للهوية والذاكرة. فقد فُقد أكثر من 3700 طفل، ليس كضحايا هامشيين للحرب، بل كجزء من إستراتيجية سياسية مدروسة تهدف إلى إعادة هندسة التركيبة الديموغرافية لصالح النظام، بحيث يتم محو جيل بأكمله من الثورة.
هذا المقال يستكشف كيف تم توظيف الاختطاف القسري للأطفال كأداة بيوبوليتيكية لإعادة صياغة المستقبل السياسي لسوريا، ويحلل تداعيات هذه الجريمة على إمكانية تحقيق العدالة الانتقالية في البلاد مستقبلاً.
الإطار النظري: من إرهاب الدولة إلى التحكم في الحياة
لفهم هذه الظاهرة المعقدة، لا بد من النظر إليها من خلال ثلاث زوايا نظرية رئيسية:
السياسة الحيوية (Biopolitics): وفقاً للفيلسوف ميشيل فوكو، انتقلت السلطة الحديثة من فرض الموت إلى إدارة الحياة نفسها. النظام السوري لم يكتفِ بسحق المعارضين، بل سعى إلى إدارة حياة أبنائهم عبر محو نسبهم وذكرياتهم وإعادة تشكيل هويتهم بالكامل. دور الأيتام، التي استقبلت أطفالاً مجهولي الهوية، كانت أشبه بمختبرات لإعادة تشكيل الولاء السياسي.
الإبادة السياسية (Politicide): على عكس الإبادة الجماعية التي تستهدف جماعة بناءً على العرق أو الدين، تستهدف الإبادة السياسية الأفراد بناءً على معتقداتهم أو ارتباطهم بالثورة، مما يهدف إلى القضاء على وجود الجماعة المعارضة ككيان سياسي. اختطاف أطفال المعارضين لم يكن عملاً عشوائياً، بل استثمار طويل الأمد لضمان عدم ظهور جيل ثوري جديد.
أزمة العدالة الانتقالية: تقوم العدالة الانتقالية على أربع ركائز أساسية (الحقيقة، العدالة، جبر الضرر، وضمان عدم التكرار). إلا أن هذه الجريمة تضع العراقيل أمام كل منها:
أزمة الحقيقة: هنا لا تقتصر الحقيقة على تحديد “من مات”، بل تشمل أيضاً البحث عن “من أصبح من”.
أزمة العدالة: كيف يمكن مقاضاة جريمة تم فيها محو هوية الضحية نفسها؟
أزمة جبر الضرر: كيف يمكن تعويض فرد عن طفولة ومسار حياة ومسيرة تعليمية مسروقة بالكامل؟
أزمة عدم التكرار: كيف يمكن ضمان عدم التكرار عندما تكون هذه الجريمة متجذرة في النظام السياسي والأمني للدولة؟
تحليل معمّق: تشريح إستراتيجية المحو
1. بنية الاختطاف: بيروقراطية الشر الممنهج
يكشف تحقيق وول ستريت جورنال أن هذه العمليات لم تكن مجرد نتائج فوضى الحرب، بل نظاماً ممنهجاً ومدروساً يتم على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى – الفصل (Separation): يبدأ الأمر باعتقال الوالدين، ثم يأتي اعتقال الأطفال لاحقاً. هذه الخطوة تضمن تفكيك الخلية الأسرية بالكامل، مما يسهل على النظام إعادة دمج الأطفال في بيئة جديدة.
المرحلة الثانية – الإخفاء والمعالجة (Processing): يتم نقل الأطفال إلى دور رعاية أو مؤسسات تتبع الدولة، مثل قرى الأطفال (SOS) أو دور الأيتام الحكومية، حيث يُمنع العاملون من التواصل مع أهلهم، ما يجعل هذه المؤسسات جزءاً من آلة القمع السياسي.
المرحلة الثالثة – المحو (Erasure): هنا تبدأ إعادة تشكيل الهوية بالكامل، عبر تغيير الأسماء وإتلاف الوثائق وعدم التوثيق الرسمي. الطفل الذي يدعى “عمر عبد الرحمن”، الذي يعتقد أنه رأى صورة قديمة لنفسه لكن اختبار الحمض النووي جاء سلبياً، هو مثال مرعب على النجاح التام لهذه العملية، حيث تم زرع الشك في ذاكرة الضحايا أنفسهم.
2. الغاية الإستراتيجية: سلاح الزمن والغموض
هذه الجريمة ليست مجرد انتقام؛ إنها استثمار طويل الأمد في السلطة عبر عدة وسائل:
هندسة الديموغرافيا السياسية: عبر محو هوية الأطفال المرتبطين بالمعارضة، يسعى النظام إلى استئصال أي إمكانية لظهور أجيال جديدة معارضة.
سلاح الغموض: ترك مصير الأطفال مجهولاً ليس مجرد نتيجة، بل هو أداة تعذيب نفسي لأسرهم والمجتمع بأكمله، مما يمنع أي إمكانية للإغلاق النفسي ويساهم في شلّ عملية التعافي الاجتماعي.
تدمير الثقة الاجتماعية: عندما تصبح مؤسسات مثل دور الأيتام جزءاً من آلة القمع السياسي، فإن ذلك يخلق مجتمعاً من الذرات المنعزلة يصعب عليه تشكيل جبهة موحدة ضد النظام.
التداعيات الكارثية على العدالة الانتقالية
نموذج العدالة التقليدية لا يمكنه التعامل مع هذه الجريمة؛ إذ يتطلب الأمر حلولاً استثنائية، أبرزها:
قاعدة بيانات وطنية للحمض النووي (DNA): للبحث عن العائلات المفقودة وربطها بأطفال مجهولي الهوية في الداخل والخارج.
محاكمات منهجية للنظام: عبر إثبات السياسة الممنهجة لا مجرد جرائم فردية، وذلك بالاستناد إلى وثائق مثل تحقيق وول ستريت جورنال وملفات قيصر.
برامج جبر ضرر طويلة الأمد: تشمل إعادة دمج الأطفال مع عائلاتهم، دعم نفسي واجتماعي، وإعادة بناء الروابط الأسرية.
تفكيك “البنية التحتية للشر”: لا يمكن ضمان عدم التكرار إلا بتفكيك الأجهزة الأمنية التي مارست هذه الجرائم وإعادة بناء مؤسسات الدولة بما يضمن حقوق الأفراد.
استعادة الوجود كشرط للمستقبل
هذه الجريمة ليست مجرد مأساة فردية، بل هي تهديد مباشر لأسس العدالة والمصالحة الوطنية في سوريا. لا يمكن الحديث عن مستقبل سلمي لسوريا دون إعادة بناء الهويات المسلوبة، لأن استعادة هؤلاء الأطفال لا تعني فقط استعادة أفراد، بل استعادة سوريا نفسها.
كما قالت نائلة العباسي: “لن نغادر سوريا قبل أن يعودوا جميعاً”. هذه ليست مجرد رغبة شخصية، بل حقيقة تاريخية يجب أن تصبح حجر الأساس في مستقبل سوريا، حيث لا يمكن لأي نظام أن يمحو الذاكرة والهوية مهما بلغ طغيانه.