ورقة تقدير موقف سياسية
المنحة القطرية لسوريا وموقف الولايات المتحدة: بين ضرورات الاستقرار النسبي ومحددات السياسة العقابية
تُمثّل السياسة الخارجية الأميركية تجاه الأزمة السورية إحدى أكثر القضايا تعقيداً وإشكالية على الساحة الدولية، حيث تتداخل فيها حسابات القوة الإقليمية، وديناميكيات النزاع متعدد الأطراف، والمحددات القيمية والأمنية للسياسة الأميركية. وفي هذا الإطار، جاء القرار الأميركي بالسماح لسوريا بتلقي منحة قطرية مخصصة لتمويل رواتب القطاع العام ليثير تساؤلات جوهرية وعميقة حول مدى ثبات المقاربة الأميركية القائمة على نظام عقوبات صارم (أبرزها “قانون قيصر”)، وما إذا كانت هذه الخطوة تمثل تحولاً تكتيكياً في الأولويات، أو استجابة براغماتية لضغوط إنسانية وسياقات جيوسياسية متغيرة. تهدف هذه الورقة إلى تقديم تقييم دقيق للموقف الأميركي الذي مكّن من هذه الخطوة، وتحليل تداعياتها المحتملة على المستويات الداخلية السورية، والإقليمية، والدولية، بالإضافة إلى استشراف السيناريوهات المستقبلية التي قد تنبثق عنها، مع تقديم توصيات سياسية عملية وذات صلة.
السياق السياسي والتنظيمي:
شهدت السياسة الأميركية تجاه سوريا، على مدار العقد الماضي، تحولات متباينة، وإن اتسمت في غالبيتها بالتركيز على ممارسة أقصى درجات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي بهدف عزل النظام السوري، وتقويض قدرته على تمويل عملياته، ومنعه من إعادة ترسيخ سيطرته الشاملة دون الانخراط في عملية سياسية ذات مصداقية وفقاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة (لا سيما القرار 2254). وقد استمر هذا النهج كركيزة أساسية لاستراتيجية أوسع تهدف، نظرياً، إلى تعديل سلوك النظام أو دفعه نحو تسوية سياسية.
ومع ذلك، فإن السماح بتمرير المنحة القطرية – حتى وإن تم تأطيره ضمن آليات الإعفاءات الإنسانية أو تلك المتعلقة بدعم سبل العيش الأساسية، وهي آليات قائمة بالفعل ضمن منظومة العقوبات الأميركية المعقدة – يفتح باب النقاش واسعاً حول مدى الصرامة الفعلية في تطبيق هذه العقوبات، وما إذا كانت هناك اعتبارات جديدة (إنسانية ملحة، محاولات تحقيق استقرار جزئي لمنع انهيار كامل، أو استجابة لديناميكيات إقليمية متغيرة تتضمن أدواراً لدول حليفة كقطر) قد بدأت تؤثر على صلابة الموقف الأميركي المعلن. هذا السياق الدقيق يضع قرار المنحة القطرية تحت مجهر التحليل لفهم أبعاده الحقيقية ودلالاته الكامنة، وما إذا كان يمثل استثناءً تقنياً أم مؤشراً على مرونة سياسية أوسع.
تحليل التداعيات:
إن قرار الولايات المتحدة بالسماح للمنحة القطرية بالوصول إلى سوريا لتمويل رواتب القطاع العام ينطوي على تداعيات متعددة المستويات، يمكن تحليلها على النحو التالي:
على المستوى الداخلي السوري:
التداعيات الإيجابية المحتملة (الجانب الإنساني والاقتصادي الجزئي):
تخفيف الأعباء المعيشية: قد تساهم المنحة في تخفيف العبء المالي عن كاهل موظفي القطاع العام وأسرهم، في ظل تدهور اقتصادي حاد وانهيار قيمة العملة المحلية، مما يوفر حداً أدنى من الاستقرار المعيشي لهذه الشريحة.
دعم استمرارية الخدمات الأساسية: يمكن أن يساعد دفع الرواتب في الحفاظ على استمرارية بعض الخدمات العامة الأساسية (مثل الصحة والتعليم والإدارة المحلية)، وإن بشكل محدود، مما يمنع الانهيار الكامل لبعض وظائف الدولة.
تقليل حوافز الفساد الصغير: قد يقلل توفير الرواتب، ولو جزئياً، من اضطرار الموظفين للبحث عن مصادر دخل غير مشروعة لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
التداعيات السلبية والمخاطر الكامنة:
إطالة أمد صمود النظام: قد يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها تمنح النظام السوري متنفساً اقتصادياً، مما قد يخفف الضغط عليه لتقديم تنازلات سياسية جوهرية، ويعزز قدرته على تخصيص موارده الأخرى لأغراض أمنية وعسكرية (قابلية تحويل الأموال).
الاستغلال الدعائي:
يمكن للنظام السوري استخدام هذه المنحة في إطار دعايته الداخلية، لتصوير نفسه كمسؤول عن تأمين معيشة المواطنين، وإلقاء اللوم في الأزمة الاقتصادية حصراً على العقوبات الخارجية.
عدم معالجة الأسباب الجذرية: لا تعالج هذه المنحة الأسباب البنيوية للأزمة الاقتصادية والسياسية في سوريا، وتبقى حلاً مؤقتاً ومحدود الأثر على المدى الطويل.
تعميق الانقسامات: قد تثير المنحة تساؤلات حول عدالة التوزيع، خاصة فيما يتعلق بالمناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتي تعاني أيضاً من أوضاع إنسانية كارثية ولا تستفيد بشكل مباشر من مثل هذه الآليات.
على المستوى الإقليمي:
دور قطر: يعزز هذا التطور من دور دولة قطر كفاعل إقليمي قادر على القيام بمبادرات إنسانية ودبلوماسية في مناطق النزاع، وقد يُفسر كجزء من استراتيجية قطرية أوسع لإعادة بناء جسور التواصل مع مختلف الأطراف في المنطقة.
الدول العربية الأخرى: قد تشجع هذه الخطوة دولاً عربية أخرى، وخاصة تلك التي بدأت مسار تطبيع حذر مع دمشق، على زيادة مساعداتها أو انخراطها تحت ذرائع إنسانية، مما قد يؤدي إلى تآكل تدريجي لجبهة العزل الإقليمي للنظام. وفي المقابل، قد تثير تحفظات لدى الدول المتمسكة بموقف أكثر صرامة.
إيران وتركيا: قد ترى إيران في ذلك تخفيفاً للضغوط على حليفها، وإن كان الأثر على نفوذها الاستراتيجي محدوداً. أما تركيا، فستراقب تداعيات هذه الخطوة على التوازنات في شمال سوريا وعلى مسار علاقاتها المعقد مع دمشق.
على المستوى الدولي:
الولايات المتحدة وحلفاؤها:
قد تُحدث هذه الخطوة بعض الارتباك لدى حلفاء واشنطن الأوروبيين حول مدى جدية الالتزام بسياسة العقوبات المشتركة، وقد تتطلب تنسيقاً وتوضيحات إضافية. كما قد تواجه الإدارة الأميركية انتقادات داخلية من الأصوات الداعية إلى التشدد المطلق مع النظام السوري.
روسيا:
سترحب موسكو على الأرجح بأي خطوة تخفف العبء الاقتصادي عن النظام السوري، مما يقلل من المسؤولية الملقاة على عاتقها، وقد تستغلها للمطالبة بتخفيف أوسع للعقوبات وربط ذلك بجهود مكافحة الإرهاب أو الاستقرار.
الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية: سترحب هذه الجهات بأي مساهمة تخفف من الكارثة الإنسانية في سوريا، لكنها ستؤكد على أن الحلول المؤقتة لا تغني عن الحاجة الملحة إلى حل سياسي شامل ومستدام يعالج جذور الأزمة.
السيناريوهات المستقبلية:
بناءً على المعطيات الحالية وتفاعلاتها المحتملة، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
السيناريو الأول: استمرار الموقف الأميركي الحالي بسياسة “المرونة المحسوبة” (الاحتمالية: متوسطة إلى عالية)
الوصف: تظل الولايات المتحدة ملتزمة شكلياً ورسمياً بنظام العقوبات كأداة ضغط أساسية، مع الإبقاء على وتيرة محدودة من الإعفاءات والاستثناءات لغايات إنسانية محددة أو لدعم استقرار جزئي في مناطق معينة. لا يُنظر إلى السماح بالمنحة القطرية كتحول استراتيجي، بل كإجراء تكتيكي ضمن هوامش المرونة القائمة، دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير جوهري في السياسة العامة.
المحركات: الضغوط الإنسانية، طلبات الحلفاء الإقليميين (مثل قطر)، الرغبة في تجنب انهيار كامل للدولة السورية.
التداعيات: استمرار الجمود السياسي العام، مع تخفيف محدود جداً للأزمة الإنسانية في مناطق محددة، واحتمال تكرار “استثناءات” مماثلة بشكل غير منتظم.
السيناريو الثاني: تآكل تدريجي لنظام العقوبات تحت ضغط الواقعية (الاحتمالية: متوسطة)
الوصف: تشهد الفترة المقبلة، نتيجة لتراكم عوامل (فشل سياسة العزل التام في تحقيق تغيير سياسي، تفاقم الكارثة الإنسانية، تغير الأولويات الدولية نحو قضايا أخرى، مبادرات إقليمية للتطبيع)، زيادة في التسهيلات الاقتصادية أو تغاضٍ أميركي عن بعض المعاملات غير العسكرية. قد يخلق هذا التخفيف التدريجي مساحة أكبر للمساعدات الإنسانية والتنموية المبكرة، وربما يسمح بأنواع محدودة من الاستثمارات في قطاعات مدنية بحتة.
المحركات: تزايد الإدراك بعدم فعالية العقوبات وحدها، ضغوط المنظمات الإنسانية، مبادرات من دول عربية تسعى لإعادة دمج سوريا.
التداعيات: انفراجات اقتصادية جزئية ومحدودة في سوريا، احتمال فتح قنوات اتصال غير رسمية بين واشنطن ودمشق، لكن دون تطبيع سياسي كامل أو رفع شامل للعقوبات.
السيناريو الثالث: عودة التصعيد وتشديد العقوبات (الاحتمالية: منخفضة إلى متوسطة)
الوصف: في حال استغلال النظام السوري للمنحة القطرية أو أي مرونة أميركية بطريقة تُفسَّر على أنها تحدٍ مباشر، أو تحويل الأموال لأغراض عسكرية أو أمنية بشكل فاضح، أو تصعيد القمع الداخلي، فقد تلجأ واشنطن إلى إعادة التأكيد على صرامة موقفها.
المحركات: سلوك النظام السوري نفسه، تغييرات في الإدارة الأميركية نحو توجه أكثر صرامة، ضغوط من الكونغرس أو جماعات الضغط المناهضة للنظام.
التداعيات: فرض قيود إضافية، تشديد تطبيق العقوبات القائمة، استهداف أفراد وكيانات جديدة، وعودة الخطاب السياسي المتشدد.
التوصيات السياسية:
انطلاقاً من التحليل والسيناريوهات المطروحة، تُقدم التوصيات التالية لصناع القرار في واشنطن والفاعلين الدوليين والإقليميين المعنيين:
ضمان الشفافية والمراقبة الصارمة والمستقلة:
يجب أن يكون أي سماح بآليات دعم مالي، كالمنحة القطرية، مصحوباً بآليات مراقبة دولية مستقلة وشديدة الصرامة، تضمن وصول الأموال بشكل مباشر وحصري إلى المستحقين المعلنين (موظفي القطاع العام المدني)، وتمنع أي تحويل لها لصالح الأجهزة القمعية أو العسكرية أو شبكات الفساد. نشر تفاصيل آليات التوزيع والمراقبة بشفافية كاملة أمر حاسم لتعزيز الثقة وتقليل المخاوف من سوء الاستخدام.
ربط أي تسهيلات مستقبلية بخطوات سياسية ملموسة وقابلة للقياس:
يجب أن تكون أي مرونة إضافية في تطبيق العقوبات أو السماح بمزيد من الدعم الاقتصادي مشروطة بشكل واضح بإحراز النظام السوري تقدماً حقيقياً وموثقاً في مسارات حيوية، مثل: التحسين الجذري لوصول المساعدات الإنسانية إلى كافة المناطق السورية دون أي عوائق، الإفراج عن المعتقلين السياسيين والكشف عن مصير المفقودين، والانخراط البنّاء والجدي في العملية السياسية وفقاً لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
تعزيز وتوسيع قنوات الدعم الإنساني المباشر وغير المشروط عبر خطوط التماس:
يتعين الاستمرار في، بل وتكثيف، آليات تقديم الدعم الإنساني الطارئ ومشاريع التعافي المبكر عبر المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية ذات المصداقية، والوكالات الأممية التي تعمل مباشرة مع المجتمعات المحلية في جميع أنحاء سوريا، لضمان وصول المساعدات إلى الفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً، وتقليل الاعتماد على القنوات التي قد يستفيد منها النظام بشكل غير مباشر.
توضيح الاستراتيجية الأميركية الشاملة وتحديد الأهداف الواقعية:
من الضروري أن تقوم الإدارة الأميركية بتوضيح استراتيجيتها العامة تجاه سوريا بشكل دوري لشركائها وخصومها. هل الهدف الأساسي لا يزال تغيير النظام، أم احتواء النفوذ الإيراني، أم منع عودة التنظيمات الإرهابية، أم تحقيق استقرار جزئي وتخفيف المعاناة الإنسانية كأولوية قصوى؟ الوضوح في الأهداف وترتيب الأولويات يمكن أن يقلل من التفسيرات المتضاربة للإجراءات التكتيكية ويوحد رؤى الحلفاء.
التنسيق المحكم والمتواصل مع الشركاء الإقليميين والدوليين:
يجب تعزيز آليات التشاور والتنسيق مع الشركاء الإقليميين (خاصة الدول المانحة مثل قطر، والدول العربية المؤثرة) والحلفاء الدوليين (خصوصاً في أوروبا وكندا) بشأن أي مبادرات تتعلق بالدعم الاقتصادي أو الإنساني لسوريا. هذا التنسيق يهدف إلى ضمان اتساق السياسات، وتجنب تقويض الجهود المشتركة للضغط السياسي عبر العقوبات، وتحقيق أقصى تأثير إيجابي ممكن لأي مساعدات تُقدم.
الخاتمة:
يعكس القرار الأميركي بالسماح للمنحة القطرية بتمويل رواتب القطاع العام في سوريا الطبيعة المعقدة والمتشابكة للسياسة الدولية تجاه هذا الملف الشائك. تتداخل في هذه الخطوة الأبعاد الاقتصادية والإنسانية الماسة بمعيشة ملايين السوريين، مع المحددات السياسية والاستراتيجية لنظام العقوبات والضغوط المفروضة على النظام. وفي حين تؤكد واشنطن رسمياً على ثبات موقفها المبدئي الرافض للتطبيع الكامل مع النظام واستمرار العمل بالعقوبات كأداة رئيسية، فإن مثل هذه الاستثناءات، حتى وإن كانت محدودة ومؤطرة، تفتح الباب أمام تأويلات متعددة حول وجود مرونة تكتيكية أو تغيرات كامنة في أولويات التعامل مع الأزمة. يظل المشهد السوري، وبالتالي السياسات الدولية تجاهه، مجالاً مفتوحاً أمام تحولات مستقبلية ستتأثر بمدى نجاح أو فشل آليات الدعم المحدودة هذه في تحقيق أهدافها المعلنة، وبكيفية تفاعل النظام السوري مع أي بوادر مرونة، وبتطور ديناميكيات القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في هذا الملف خلال المرحلة القادمة.