تواجه المنهجيات التقليدية لبناء السلام أزمة حقيقية في قدرتها على استيعاب الحقائق الفوضوية التي تتسم بها الصراعات الحديثة. فالتدخلات التي يصوغها صناع السياسات الدوليون يجب أن تتطور لتواكب عالمًا يتشكل من علاقات عابرة للحدود الوطنية وتكتلات ظرفية تقودها في المقام الأول دوافع اقتصادية.
لم تكن النزاعات المسلحة يومًا حبيسة حدود دولة بعينها، فلطالما امتد تأثير الحروب الأهلية إلى دول الجوار أو تأثرت بها. إلا أن المشهد العالمي الراهن يشهد تدويلًا للصراعات بأنماط مستجدة. ففي حين أن المقاتلين، كما في السابق، يمثلون جزءًا من الاقتصادات المحلية وشبكات الإمداد عبر الحدود، أصبحت الشبكات العابرة للحدود التي تغذي هذه الصراعات أكثر مرونة وتعددًا للأبعاد. وبناءً على ذلك، بات لزامًا على سياسات الاستقرار وبناء السلام أن تتكيف مع هذا الواقع المتغير.
تحولات جوهرية في طبيعة الصراع
يستند تحليلنا إلى ملاحظة اتجاهين مترابطين يرسمان ملامح البيئة الأمنية العالمية. الاتجاه الأول هو التصاعد الملحوظ في عدد النزاعات ومدتها وتعقيدها. ففي عام 2024، شهد العالم 61 نزاعًا مسلحًا، وهو رقم يفوق ما سُجل قبل عقد من الزمن بنسبة الثلث، ويمثل زيادة بنسبة 74% عن المتوسط السائد في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقد لاحظت الأمم المتحدة أن الصراعات المعاصرة أصبحت “أطول أمدًا وأقل استجابة للآليات التقليدية للحل”. ومع تبدل التيارات الجيوسياسية، لا يقتصر الأمر على تزايد احتمالات نشوب الصراعات، بل إن تحديات معالجتها أصبحت أكثر جسامة.
الاتجاه الثاني، والذي نرى أنه يساهم بشكل كبير في الأول، هو بزوغ ما يمكن تسميته بـ “السياسة الخارجية متعددة التحالفات”. تدور حروب اليوم في مشهد عالمي غالبًا ما تتفوق فيه المصالح البراغماتية والاقتصادية على التحالفات الصارمة التي سادت حقبة الحرب الباردة أو مناطق النفوذ التقليدية. على مستوى العلاقات بين الدول، يتجلى ذلك في التدخلات في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث تتعاون قوى إقليمية مؤثرة مثل تركيا وقطر ومصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية مع حكومات أو مؤسسات غربية في ملفات معينة، بينما تعارض نفس الشركاء في ملفات أخرى. إن التحول التدريجي عن عصر الهيمنة الأمريكية الأحادية القطبية يدعم جزئيًا هذا السلوك.
هذا الواقع الجديد يعيد أيضًا تشكيل الطريقة التي تدير بها النخب المحلية والجماعات المسلحة في مناطق الصراع علاقاتها الخارجية. فهذه الجهات الفاعلة تبني تحالفات عملية وتكيفية مع شركاء متعددين من مختلف الأطياف السياسية والأيديولوجية، مما لا يقلب المفاهيم التقليدية حول ديناميكيات “الراعي والوكيل” فحسب، بل يضيف متغيرات جديدة يجب أن تضعها أي سياسة لحل النزاعات في الحسبان.
اقتصادات الحرب: محركات العنف المستدام
هذا التقرير، الذي يمثل تتويجًا لمشروع بحثي استمر خمس سنوات، يستكشف ما تكشفه الحروب الممتدة حول قصور جهود بناء السلام التي تقودها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وغيرها من الحكومات والمؤسسات ذات التفكير المماثل. يستند التحليل إلى أبحاث ميدانية حول الحرب الأهلية في السودان، والمواجهة بين إيران وإسرائيل والصراعات المرتبطة بها في الشرق الأوسط، والنزاع الليبي. لقد أصبحت هذه الأزمات الممتدة جبهات رئيسية في صراع متغير على النفوذ العالمي. يسعى تحليلنا إلى “تتبع المال” عبر تسليط الضوء على القوى الاقتصادية الخفية التي تحرك التدفقات العابرة للحدود لرأس المال والسلع والأفراد. نحن نكشف كيف تولد هذه الأنشطة أرباحًا لمجموعة واسعة من الدول والفاعلين، مما يضمن استدامة العنف على المدى الطويل ويجعل من الصعب على صناع السياسات تفكيك هذه الشبكات. على وجه التحديد، يحلل التقرير تجارة الذهب الناشئة من السودان ومحيطه؛ وسلاسل التوريد التي تطورت للتحايل على العقوبات المفروضة على صادرات النفط الإيرانية؛ وشبكات تهريب المهاجرين عبر ليبيا.
تتشابه هذه الصراعات في سمات حاسمة؛ فكل منها يعتمد على “نظام بيئي” جغرافي واقتصادي تعمل ضمنه المؤسسات والجماعات المسلحة والشركات والمصالح الأخرى خارج حدود الدولة، وغالبًا بالتنسيق مع وسطاء خارجيين. هذه الأنظمة لا مركزية، وغير هرمية، ويدفعها الربح، وتتسم بالبراغماتية المطلقة، حيث يشكل الفاعلون المحليون والأجانب تحالفات لا يمكن لأي طرف بمفرده التحكم فيها بالكامل. في هذا المشهد، تعد الحدود والموانئ والمطارات ساحات معارك رئيسية للنفوذ، حيث تدعم القوى الخارجية أطرافًا متعددة في آن واحد. لم تعد الجماعات المسلحة مجرد فاعلين من غير الدول أو وكلاء، بل أصبحت في كثير من الأحيان فاعلاً سياسياً مهماً بحد ذاتها، تستفيد من تفتت الدولة وتتعزز قوتها من خلال التوجه نحو بناء التحالفات المرنة.
مأزق السياسات الدولية وتوصيات للمستقبل
في خضم هذه التعقيدات، غالبًا ما تؤدي برامج الاستقرار وبناء السلام الدولية إلى عواقب غير مقصودة، فتتسبب في تفاقم الحوافز التي تدعم التربح من الأسواق غير المشروعة بدلاً من كبحها. وغالبًا ما تتعثر التدابير الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية والإنمائية لأن السياسة الخارجية الغربية لا تزال تتمحور حول الدولة، على الرغم من الإقرار الشكلي بالطبيعة العابرة للحدود للعديد من النزاعات. إن الاستراتيجيات التي تصنف جماعات مسلحة معينة أو دولاً (أو غيرها من الجهات الفاعلة) ضمن فئات جامدة مثل “حليف” أو “خصم” تتجاهل الواقع الديناميكي على الأرض. وينطبق الأمر نفسه على محاولات الحكومات عزل الأطراف الفاعلة في النزاع عن الشركاء التجاريين الشرعيين؛ فقد يكون الشريك الاقتصادي في سياق ما متحالفًا مع خصم في سياق آخر.
يدعو هذا التقرير صناع السياسات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وغيرها إلى تبني نهج عملي واستراتيجي و”عابر للحدود” في التخفيف من حدة النزاعات، وهو نهج يتجاوز الثنائيات القديمة (محلي مقابل دولي، دولة مقابل غير دولة، إلخ)، ويعكس تعقيد المشهد العالمي اليوم. وفي ضوء هذا النموذج المتطور، تتمحور توصياتنا حول ضرورة ما يلي:
تكييف التحليل بما يتناسب مع الحقائق العابرة للحدود: يجب تطوير منهجيات تحليل الصراع لتتجاوز تركيزها الحالي المتمحور حول الدولة. فبينما تعترف أطر السياسة الحالية اسميًا بالعوامل العابرة للحدود، إلا أنها لا تزال تتعامل مع الدولة القومية كوحدة أساسية للعلاقات الدولية. هذا الأمر لا يولي وزنًا كافيًا للديناميكيات عبر الحدود والإقليمية والأوسع نطاقًا، ويحرم التحليل والحلول المقترحة من الدقة اللازمة.
توظيف القوة الاقتصادية كأداة للاستجابة للصراعات: لمعالجة النزاعات بفعالية أكبر، يجب على صانعي السياسات التعامل مع الأبعاد الاقتصادية التي غالبًا ما يتم تجاهلها في بناء السلام. فبدلاً من الاعتماد بشكل أساسي على العقوبات، يمكن للتدخلات أن تخلق حوافز للتعاون السلمي من خلال الدعم الاستراتيجي للبنية التحتية والقطاعات الاقتصادية المستدامة. يمكن للعقوبات والأدوات المالية أن تساهم في تعطيل اقتصادات الصراع إذا تم استخدامها بشكل استراتيجي، مع أهداف نهائية واضحة وتقليل الضرر على سبل العيش. إن استهداف القطاعات غير المشروعة التي يوجد بها عدد أقل من المصالح الراسخة يسمح بتأثير أكبر مع تقليل الاضطراب غير المقصود للمجتمعات المحلية. إن اتخاذ إجراءات ضد الممارسات الاقتصادية غير المشروعة، من خلال العقوبات على سبيل المثال، دون توفير بدائل معيشية قابلة للتطبيق، يخاطر بتسهيل أشكال جديدة من الضرر.
التأثير بالوساطة عبر الانخراط العملي مع الخصوم والحلفاء: يتطلب صعود الفاعلين متعددي التحالفات في اقتصادات الصراع العابرة للحدود من بناة السلام الانخراط بشكل مستمر واستراتيجي مع الحلفاء والخصوم على حد سواء. في السعي لإدارة الصراع وتخفيف أبعاده العنيفة، يجب على الدول والمؤسسات الاستثمار في تنمية مجموعة واسعة من العلاقات، وأحيانًا مع شركاء لا يُنظر إليهم عادةً كأطراف للتعاون. يجب أن يدرك صناع السياسات أن التحالفات ليست مطلقة؛ فقد يختلف الحليف في بعض القضايا، تمامًا كما قد يتفق الخصم في قضايا أخرى.
تنسيق التحليل العابر للحدود عبر أجندات السياسة والإدارات الحكومية: إن اعتماد تحليل الصراع العابر للحدود قد يؤدي إلى مواءمة أجندات السياسة التي غالبًا ما تكون مجزأة داخل الحكومات (حيث يكون لدى إدارة ما أولويات مختلفة عن الأخرى فيما يتعلق ببلد أو صراع معين). يمكن للعدسة العابرة للحدود أن تساعد الحكومات أيضًا على تنسيق سياساتها بشكل أفضل مع أنشطة الجهات الفاعلة غير الحكومية العاملة في مناطق الصراع. وتتمثل إحدى الخطوات المهمة في توسيع وتجميع الخبرات التحليلية عبر الإدارات الحكومية، لا سيما في مجالات السياسة التي يتقاطع فيها الصراع مع التدفقات المالية غير المشروعة والجريمة المنظمة.
تحفيز المبادرات العابرة للحدود من خلال تخصيص الموارد: لمواجهة التركيز الثنائي الطبيعي (أي من دولة إلى دولة) للعديد من وزارات الخارجية، يمكن إنشاء فرق عمل مخصصة أو فرق تنفيذ لتفكيك صوامع السياسة الخاصة بكل بلد ودفع الإجراءات المنسقة. يجب تخصيص الموارد لهذه المهمة بطريقة تتغلب على قيود الميزانيات التي تركز على البلدان، بحيث لا يكون العمل العابر للحدود مجرد مبدأ، بل أولوية مدعومة بالموارد.
تعزيز آليات المساءلة: يجب أن تتضمن التسويات السياسية واتفاقيات وقف إطلاق النار أكثر من مجرد اتفاقيات حول تقاسم السلطة بين النخب والانتقال السياسي؛ بل يجب أن تشمل تدابير قابلة للتنفيذ تعزز المساءلة. ويمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تلعب دورًا حاسمًا في مساءلة الأطراف الفاعلة في النزاع.
المركز العربي الأوروبي للدراسات السياسية والاجتماعية