من الخطاب إلى الهندسة الجيوسياسية شهدت إدارة دونالد ترامب (2017–2021) لحظة مفصلية في إعادة هندسة السياسة الخارجية الأمريكية. فبعيداً عن المبادئ الليبرالية التي حكمت مرحلة ما بعد الحرب الباردة، رسخت الإدارة فلسفة قومية انعزالية تعيد تعريف الأولويات والأدوات. تحت شعار “أمريكا أولاً”، لم يُعد الأمن مفهوماً عسكرياً تقليدياً، بل مفهوماً مركّباً يشمل الهجرة والهوية والسيادة الاقتصادية. تشير هذه الورقة إلى أن الإنذار الدبلوماسي الذي وُجّه عام 2017 إلى ست وثلاثين دولة لم يكن مجرد إجراء تقني لتحسين الوثائق، بل أداة استراتيجية جديدة لتكريس هيمنة ناعمة عبر أدوات سيادية غير قتالية. وقد شكّل هذا الإنذار سابقة في تحييد الأعراف الدبلوماسية التقليدية، وتحويل سياسات الهجرة والتأشيرات إلى أدوات اختبار للولاء والامتثال.
التأطير النظري: الهيمنة الليبرالية وتحوّل أدوات القوة وفقًا لأطر النظرية الواقعية الجديدة، تتحرك الدول ضمن نظام دولي فوضوي يفرض عليها السعي للسيطرة، لا سيما عبر أدوات غير تقليدية حين تتعذر المواجهة المباشرة. ويمكن فهم سلوك إدارة ترامب في هذا السياق كسعي لبناء “هيمنة انتقائية” عبر فرض معايير خارجية دون الحاجة إلى تدخل عسكري. كذلك، نجد انعكاسًا لمفهوم “القوة الذكية” (Smart Power) حيث تُمزج أدوات الترغيب (المساعدات، التعاون) بالترهيب (التهديد بالحظر أو العزل)، بما يُعيد تعريف المشهد الجيوسياسي على نحو أكثر هشاشة ولا مركزية.
. بنية الإنذار: عندما يصبح الامتثال شرطاً للعلاقة وفقًا للوثيقة المسرّبة من وكالة “أسوشيتد برس”، انقسم الإنذار إلى مطلبين أساسيين:
١. الامتثال التقني: يتعلق بتحسين التحقق من وثائق السفر، اعتماد جوازات سفر بيومترية، والانخراط في منظومات تبادل المعلومات الأمنية.
٢. الامتثال السياسي–السيادي: القبول غير المشروط بعودة المواطنين المهاجرين غير النظاميين، في تجاهل سافر لسياسات كل دولة تجاه مواطنيها في الخارج.
الجمع بين هذين المطلبين تحت سقف زمني ضيق (٦٠ يومًا) يُحول الإنذار من كونه اقتراحًا دبلوماسيًا إلى اختبار امتثال، محكوم بمنطق “إما معنا أو ضدنا”. هذا الانزياح يحوّل التعاون من علاقة تبادلية إلى علاقة هيمنة مشروطة.
السياق العقائدي: حدود الأمن وهندسة الداخل عبر الخارج عقيدة “أمريكا أولاً” أعادت رسم الخرائط بين الداخل والخارج. لم يعد التهديد مرتبطًا بالإرهاب فحسب، بل أصبح ممتدًا إلى الهجرة كعنصر يهدد “النقاء الثقافي” والاقتصاد الأمريكي، وفق الرؤية الترامبية. برز حظر السفر، المنصوص عليه في الأمر التنفيذي 13769 ثم الإعلان 9645، كأداة تنفيذية لصياغة هذه الرؤية. لم تعد التأشيرة أداة إدارية، بل أصبحت امتيازًا مرتبطًا بمؤشرات أداء تُقاس بمعايير أمريكية أحادية. بذلك، تحوّلت السيادة إلى عملة تفاوضية، تُسعَّر حسب مدى امتثال الطرف الآخر للمعايير المُحددة أمريكيًا.
دراسات حالة: التوظيف الانتقائي لتكريس الهيمنة يبين التحليل أن اختيار الدول الست والثلاثين تم وفق منطق استراتيجي محسوب:
مصر – تحييد الحليف دون المساس بالتحالف: إدراجها يؤشر إلى أنه لا توجد خطوط حمراء أو استثناءات، حتى للحلفاء الذين يتلقون دعماً عسكرياً واقتصادياً. الهدف ليس العقوبة بل إيصال رسالة بأن النظام الجديد يُطبق بلا محاباة.
سوريا – الشرعنة عبر العدو الواضح: إدراجها يحمل وظيفة رمزية؛ إذ تُستخدم كـ”نموذج للفشل”، لتبرير الاستراتيجيات المتشددة، مع إدراك مسبق أنها لا تملك مقومات الامتثال.
القارة الأفريقية – اختبار الفجوات والتفاوت: اعتماد أكثر من ٢٥ دولة أفريقية يؤشر إلى استغلال واضح للضعف المؤسسي والتقني، مع تطبيع ضمني لفكرة أن الهشاشة تُبرر الإقصاء لا الشراكة. هذا النمط يُعيد إنتاج سرديات استعمارية خفية ترى في أفريقيا مجالًا للضبط لا التعاون.
نتائج عكسية وإرث دائم رغم تعليق بعض هذه السياسات لاحقاً، إلا أن إرثها يتجلّى في:
إعادة تعريف أدوات الدبلوماسية: لم تعد المفاوضة تُبنى على المصلحة المشتركة، بل على اختبارات الامتثال والتقييد.
تقويض فكرة الأمن الجماعي: عندما تُستخدم أدوات الأمن لحماية أجندة داخلية ضيقة، تُهمل التهديدات الحقيقية العابرة للدول.
تعميم سابقة خطيرة: قد تشكّل هذه التجربة مرجعاً لقوى دولية أخرى لاستعمال الأدوات غير العنيفة في صياغة منظومات تبعية مشروطة.
السيادة كسلعة أم كمرتكز للتوازن الدولي؟ تكشف هذه الورقة أن الإنذار الذي وُجّه عام 2017 لم يكن عرضيًا، بل كان تجليًا لتوجّه أوسع يعيد صياغة العلاقات الدولية من خلال أدوات غير تقليدية. في عصر ما بعد القطبية الواحدة، تظهر خطورة الاعتماد على أدوات سيادية غير عسكرية في هندسة النظام الدولي. فحين تصبح الهجرة والتأشيرات أدوات صلبة، تفقد الدولة الصغيرة مساحة المناورة، وتُعاد هندسة النظام من فوق، لا عبر التفاوض، بل عبر إملاءات مغلفة بمعايير أمنية. يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للنظام الدولي أن يصمد أمام موجات “الامتثال الإجباري” التي تُشرعن باسم السيادة؟ أم أننا بصدد حقبة جديدة تُباع فيها السيادة في سوق المعايير؟