قراءة في عملية التضليل المزعومة قبيل ضربة إيران
يكشف التقرير الصحفي المستند إلى مصادر في صحيفتي “جيروزاليم بوست” و”يسرائيل هيوم” عن عملية متكاملة الأبعاد لما يمكن وصفه بـ”الخداع الاستراتيجي”، الذي سبق توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية مفترضة ضد إيران. يتجاوز هذا التقدير مجرد سرد تفاصيل الخطة، ليحللها كدراسة حالة تكشف عن مكونات أساسية في العقيدة الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية.
يجادل هذا التقرير بأن العملية الموصوفة، إن صحت تفاصيلها، لم تكن مجرد خدعة تكتيكية، بل كانت حملة “حرب معلومات”متكاملة، تم فيها توظيف جميع أدوات القوة الوطنية – السياسية، الدبلوماسية، الإعلامية، والنفسية – لخدمة هدف عسكري واحد: تحقيق المفاجأة الاستراتيجية وشل قدرة الخصم على اتخاذ قرار استباقي أو دفاعي فعال.
يستنتج التحليل أن نجاح هذه العملية يكمن في أربعة مستويات متكاملة: أولاً، استخدام المسرح السياسي الداخلي الإسرائيلي كغطاء فعال. ثانياً، بناء رواية دبلوماسية مضللة على الساحة الدولية. ثالثاً، توظيف البُعد الشخصي والنفسي للقادة. رابعاً، فرض جدار حديدي من “الأمن العملياتي” . إن هذه العملية، التي وصفتها “يسرائيل هيوم” بأنها “الأكثر تطوراً في تاريخ إسرائيل الحديث”، تجسد المبدأ الذي أرساه المفكر العسكري الصيني سون تزو في كتابه “فن الحرب”:
“كل الحروب مبنية على الخداع”، وتؤكد أن معركة “إدارة التصورات” لا تقل أهمية عن معركة الصواريخ والطائرات.
1. مقدمة: الخداع كعقيدة استراتيجية
في عالم الاستراتيجية العسكرية، لا يُعد الخداع مجرد تكتيك ثانوي، بل هو “مضاعِف للقوة”) يمكنه أن يمنح الطرف الأضعف نسبياً القدرة على تحقيق نصر حاسم. إن القدرة على تشكيل تصورات الخصم، والتلاعب بحساباته، وخلق “الضباب الحربي” مصطنع، هي جوهر ما يميز العمليات العسكرية الناجحة.
النص المقدم يصف عملية تندرج ضمن مفهوم إسرائيلي متجذر يُعرف بـ “هعاراما”، والذي يعني الحيلة أو الخدعة أو المكر. هذا المفهوم ليس وليد اللحظة، بل هو جزء من التراث الاستراتيجي الإسرائيلي، وقد تم استخدامه بفعالية في عمليات سابقة، مثل خطط الخداع التي سبقت حرب عام 1967، أو عملية “أوبرا” التي دمرت المفاعل النووي العراقي “أوزيراك” عام 1981.
تهدف هذه الورقة إلى تفكيك طبقات عملية الخداع المزعومة، وتحليل وظيفة كل طبقة، واستخلاص الدلالات الاستراتيجية العميقة حول كيفية عمل العقل الاستراتيجي الإسرائيلي في مواجهة تحدٍ وجودي.
2. تفكيك عملية الخداع: تحليل متعدد المستويات
يمكن فهم العملية الموصوفة عبر تحليل أربعة مستويات متداخلة ومتكاملة، عملت معاً كأوركسترا متناغمة لتحقيق هدف واحد.
المستوى الأول:
المسرح السياسي الداخلي كـ “ضوضاء معلوماتية”
يكمن أحد أكثر جوانب الخطة ذكاءً في استخدام الأزمات السياسية الداخلية الحقيقية كأفضل غطاء للتعتيم.
قانون تجنيد الحريديم والخلافات الائتلافية: هذه القضايا ليست مصطنعة، بل هي أزمات حقيقية تستحوذ على اهتمام الإعلام والرأي العام الإسرائيلي. من خلال تسليط الضوء عليها، تم خلق “ضوضاء معلوماتية” كثيفة، حجبت بفعالية “الإشارة” الحقيقية المتمثلة في الاستعدادات العسكرية. بالنسبة لأجهزة الاستخبارات الإيرانية، يصبح من الصعب للغاية تمييز التحركات الجادة وسط هذا الكم الهائل من الأزمات الداخلية التي تبدو أنها تشغل صانع القرار.
تسريب اجتماع الأسرى: كان تسريب أن مجلس الوزراء الأمني المصغر يناقش مفاوضات الأسرى بمثابة “طُعم معلوماتي” مثالي. فهو موضوع ذو مصداقية عالية، ويخدم هدف تهدئة إيران عبر الإشارة إلى أن الأولوية هي للدبلوماسية لا للحرب.
المستوى الثاني: المسرح الدبلوماسي الدولي كـ “ستار دخان”
تم بناء رواية موازية على الساحة الدولية هدفها إظهار أن إسرائيل غير مهيأة لعمل عسكري وشيك.
“خدعة واشنطن”: الإعلان عن زيارة وهمية لرئيس الشؤون الاستراتيجية ومدير الموساد إلى واشنطن هو تضليل على مستوى عالٍ.
فهو يرسل رسالة ثلاثية: لإيران بأن هناك مساراً دبلوماسياً لا يزال مفتوحاً، للولايات المتحدة بأن إسرائيل تستجيب لضغوطها لضبط النفس، وللمجتمع الدولي بأن الحل العسكري ليس وشيكاً.
الخلاف المزعوم مع ترامب: الإشارة إلى خلاف بين نتنياهو و”ترامب” (وهي إشارة قد تكون خطأ في النقل الصحفي أو معلومة مضللة مقصودة لإضافة المزيد من الارتباك) هي تكتيك نفسي ذكي. إن إظهار وجود خلافات مع الحليف الأكبر (الولايات المتحدة) يوحي بأن إسرائيل لا تملك “الضوء الأخضر” لشن هجوم كبير، مما يساهم في خفض حالة التأهب لدى الخصم.
المستوى الثالث: البُعد الشخصي والنفسي للقادة
امتد الخداع ليشمل السلوك الشخصي للقادة، بهدف كسر أي نمط متوقع.
إجازة نتنياهو وزواج ابنه: في علم النفس العسكري، يبحث العدو عن أي تغيير في روتين القادة كإشارة على قرب وقوع حدث كبير. إن تسريب معلومات عن خطط شخصية وعائلية لرئيس الوزراء يخلق انطباعاً بالعودة إلى الحياة الطبيعية ، وهو عكس ما يتوقعه أي محلل استخباراتي يترقب هجوماً.
المستوى الرابع: جوهر الأمن العملياتي والجدار الحديدي
كل ما سبق يصبح بلا قيمة دون فرض سرية مطلقة على الخطة الحقيقية.
وثيقة “شمر سود”: هذا الإجراء يضمن تحويل دائرة صانعي القرار إلى “صندوق أسود”، ومنع أي تسريب، حتى غير المقصود.
الدائرة المصغرة: حصر تفاصيل الخطة الكاملة في “حفنة من المسؤولين” هو تطبيق صارم لمبدأ “الحاجة للمعرفة”، وهو حجر الزاوية في أي عملية حساسة. إن صمت المسؤولين الإسرائيليين التام، كما ذكرت “يسرائيل هيوم”، كان الجزء الأكثر أهمية في الخطة، فغياب المعلومات الموثوقة يجبر العدو على الاعتماد على التحليل والتكهنات، وهي بالضبط البيئة التي ينجح فيها الخداع.
3. الدلالات الاستراتيجية والدروس المستفادة
التكامل كعقيدة: الدرس الأهم هو أن القوة الاستراتيجية لا تكمن في كل أداة على حدة، بل في القدرة على دمجها في خطة واحدة متماسكة. لقد تم استخدام السياسة الداخلية، الدبلوماسية، الإعلام، وعلم النفس كأسلحة في هذه المعركة، تماماً مثل الطائرات والصواريخ.
استغلال الانحيازات المعرفية للخصم:
لقد نجحت الخطة، كما وُصفت، لأنها استغلت “الانحيازات المعرفية” لدى الجانب الإيراني. كانت إيران تبحث عن مؤشرات معينة (وحدة داخلية إسرائيلية، تنسيق علني مع واشنطن، استعدادات عسكرية واضحة)، وقد قامت إسرائيل بتغذيتها بعكس هذه المؤشرات تماماً، مما دفعها إلى استنتاجات خاطئة.
“المفاجأة الاستراتيجية” كهدف أسمى: الهدف النهائي لم يكن مجرد مفاجأة تكتيكية، بل مفاجأة استراتيجية تشل قدرة القيادة الإيرانية على التفكير واتخاذ القرار في “اللحظات الذهبية” قبل وأثناء الضربة. إن الوصول إلى “نقطة اللاعودة”، كما وصفتها الصحيفة، دون أن يدرك الخصم ذلك، هو تعريف النجاح في هذا النوع من العمليات.
4. خاتمة: الحرب تبدأ قبل الطلقة الأولى
إذا كانت تفاصيل هذه العملية دقيقة، فإنها تقدم دليلاً قاطعاً على أن الحروب الحديثة، خاصة بين القوى الإقليمية المتطورة، تبدأ وتنتهي في عقول القادة. إنها معركة على الإدراك والتصورات قبل أن تكون معركة في الميدان. لقد أظهرت إسرائيل، من خلال هذه الخطة المزعومة، أنها تدرك تماماً أن تفوقها التكنولوجي والعسكري قد لا يكون كافياً وحده، وأن القدرة على المكر والخداع (“هعاراما”) تظل سلاحاً لا يقل فتكاً وقيمة.
في نهاية المطاف، تجيب هذه الحالة الدراسية على السؤال المطروح “هل خدعت إسرائيل إيران؟” بإجابة تتجاوز “نعم” البسيطة. إنها تظهر كيف تم الخداع عبر نسج شبكة معقدة من الأكاذيب ونصف الحقائق والصمت المطبق، مما يبرهن على أن الانتصار في القرن الحادي والعشرين قد يعتمد على من يكتب الرواية الأفضل ويتحكم في تصورات الواقع، قبل إطلاق الطلقة الأولى بوقت طويل.