تُعدّ التحولات السياسية التي تشهدها سوريا في أعقاب الإطاحة بنظام بشار الأسد منعطفاً تاريخياً بالغ الأهمية، ليس فقط للمستقبل المباشر للبلاد، بل أيضاً لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية. في خضم حالة السيولة وعدم اليقين التي تكتنف المشهد السوري، تبرز الديناميكيات الداخلية بين المكونات المجتمعية المختلفة كعامل حاسم في تحديد مسار الدولة المستقبلي. لطالما شكلت القضية الكردية في سوريا، بتاريخها الطويل من المطالب السياسية والثقافية والسعي للاعتراف والحكم الذاتي، أحد أبرز محاور التجاذب السياسي والاجتماعي. ومع انهيار السلطة المركزية السابقة، تدخل هذه القضية مرحلة جديدة تتسم بتصاعد الطموحات وتوحيد الرؤى، وإن كان ذلك في مواجهة تحديات بنيوية وسياسية معقدة.
تُفيد التقارير الواردة من مصادر كردية عن توصل الفصائل الكردية السورية المتنافسة، بما في ذلك القوى المهيمنة في شمال شرق البلاد، إلى اتفاق حول رؤية سياسية مشتركة في شهر مارس 2025، وهو تطور يكتسب أهمية استثنائية. جوهر هذه الرؤية، كما تؤكده تصريحات مسؤولين أكراد بارزين، يتمثل في المطالبة الصريحة بإقامة نظام فيدرالي في سوريا المستقبل. يمثل هذا الإعلان تحولاً ملحوظاً في الخطاب السياسي الكردي الذي كان يميل سابقاً إلى استخدام مصطلحات أكثر حذراً مثل “اللامركزية”.
تهدف هذه الورقة التحليلية الأكاديمية إلى دراسة أبعاد هذا الإجماع الكردي المستجد على المطالبة بالفيدرالية، معتمدة حصراً على المعلومات الواردة في النص المرجعي المقدم. تسعى الورقة إلى تفكيك مكونات الرؤية الفيدرالية الكردية المعلنة، وتحليل الدوافع والسياقات التي أدت إلى هذا التقارب بين الفصائل المتنافسة في هذا التوقيت تحديداً. كما ستتناول الورقة التحديات المحتملة التي تواجه هذا المشروع السياسي، سواء على الصعيد الداخلي السوري في ظل رفض الحكومة المؤقتة المعلن، أو على الصعيد الإقليمي الضمني. وتجادل الورقة بأن هذا التوافق الكردي لا يمثل مجرد تكتيك سياسي مرحلي، بل هو تعبير عن تحول استراتيجي يهدف إلى ترسيخ مكاسب الحكم الذاتي التي تحققت خلال سنوات الصراع، وتأمين موقع سياسي وإداري وثقافي دائم للمكون الكردي ضمن إطار دولة سورية موحدة ولكن مُعاد هيكلتها جذرياً على أسس فيدرالية وتعددية.
خلفية: المسألة الكردية والبحث عن اللامركزية في سوريا
لفهم أعمق لدلالات الإعلان الأخير، لا بد من وضعه في سياقه التاريخي والسياسي الأوسع. عانى الأكراد في سوريا، كغيرهم من الأكراد في دول الجوار، من سياسات تهميش وإنكار ثقافي وسياسي متفاوتة الشدة على مدى عقود. تمثلت المطالب الكردية تاريخياً في الاعتراف بالهوية واللغة والثقافة الكردية، وإنهاء السياسات التمييزية، والمشاركة السياسية الفعالة، والحصول على درجة من الإدارة الذاتية لمناطق تواجدهم الرئيسية في شمال وشمال شرق البلاد.
خلال سنوات الصراع السوري الذي اندلع في 2011، ومع تراجع سيطرة الدولة المركزية، برزت فرصة تاريخية للقوى السياسية والعسكرية الكردية، وعلى رأسها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب (YPG) التي شكلت لاحقاً العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد). نجحت هذه القوى في بسط سيطرتها على مناطق واسعة وتأسيس إدارة ذاتية الأمر الواقع، عُرفت لاحقاً باسم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES). تبنت هذه الإدارة نموذجاً للحكم يرتكز على اللامركزية، ومجالس الإدارة المحلية، والمشاركة المجتمعية، والتمثيل النسائي، والتعددية الثقافية.
ومع ذلك، اتسم الخطاب الرسمي للإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية بالحذر الشديد في استخدام مصطلح “الفيدرالية”. بدلاً من ذلك، تم التركيز على مفاهيم “اللامركزية الديمقراطية” أو “الإدارة الذاتية الموسعة”. يمكن تفسير هذا الحذر بعدة عوامل؛ منها تجنب استفزاز الحكومة المركزية في دمشق آنذاك، ومراعاة الحساسيات الإقليمية والدولية، لا سيما الموقف التركي الذي يرى في حزب الاتحاد الديمقراطي امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK) ويناهض أي كيان كردي مستقل أو شبه مستقل على حدوده. كما أن مصطلح الفيدرالية بحد ذاته قد يثير مخاوف لدى أجزاء أخرى من المجتمع السوري من أن يكون خطوة نحو الانفصال، وهو ما دأبت القيادات الكردية على نفيه، مؤكدة على أن هدفها هو الحكم الذاتي ضمن سوريا موحدة.
على الصعيد الداخلي الكردي، لم يكن المشهد السياسي موحداً. فإلى جانب حزب الاتحاد الديمقراطي المهيمن، يوجد المجلس الوطني الكردي (KNC)، وهو ائتلاف لأحزاب كردية أخرى غالبًا ما كانت على خلاف سياسي وأيديولوجي مع حزب الاتحاد الديمقراطي، ولديها علاقات مختلفة مع المعارضة السورية وتركيا. وجود تنافس وصراع نفوذ بين هذين القطبين الرئيسيين كان سمة بارزة للمشهد السياسي الكردي. من هنا، تكتسب الأنباء عن اتفاقهما على رؤية سياسية مشتركة، وخصوصاً حول نقطة محورية وحساسة كالفيدرالية، أهمية مضاعفة، إذ تشير إلى تجاوز مرحلة من الانقسام الداخلي لصالح موقف موحد في لحظة سياسية مفصلية لسوريا.
تبلور الرؤية الفيدرالية الموحدة: التوقيت والدلالات
يشير النص المرجعي بوضوح إلى أن الاتفاق على الرؤية السياسية المشتركة، التي تتضمن المطالبة الصريحة بالفيدرالية، تم بين القوى السياسية الكردية الرئيسية، بما فيها المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، خلال اجتماع عُقد في شهر مارس 2025. هذا التوقيت ليس عرضياً، بل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطورات الدراماتيكية التي شهدتها سوريا والمتمثلة في الإطاحة بنظام بشار الأسد. لقد خلق سقوط النظام المركزي السابق فراغاً في السلطة وأعاد خلط الأوراق السياسية بشكل جذري، مما فتح الباب أمام مختلف القوى والمكونات المجتمعية لإعادة التفاوض حول شكل الدولة ومستقبلها.
في هذا السياق، يبدو أن القوى الكردية رأت في هذه اللحظة فرصة سانحة لتحويل مطالبها التاريخية بالحكم الذاتي واللامركزية إلى مشروع سياسي أكثر تحديداً وطموحاً: الفيدرالية. التحول في الخطاب من “اللامركزية” المتحفظة إلى “الفيدرالية” الصريحة يحمل دلالات مهمة. قد يعكس هذا التحول شعوراً متزايداً بالثقة بالنفس لدى القوى الكردية، مستندة إلى سيطرتها الفعلية على الأرض وقدراتها العسكرية والتنظيمية التي بنتها خلال سنوات الصراع. كما يمكن تفسيره بأنه محاولة لترسيخ المكاسب التي تحققت على أرض الواقع ضمن إطار دستوري وقانوني دائم في سوريا الجديدة، يضمن عدم التراجع عنها مستقبلاً. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون تبني مصطلح “الفيدرالية” رداً استباقياً على التوجهات المركزية المحتملة للحكومة السورية المؤقتة الجديدة، خاصة في ظل “الإعلان الدستوري الأحادي الجانب” الذي أصدرته والذي يرى فيه الأكراد، بحسب سليمان أوسو رئيس المجلس الوطني الكردي، تعارضاً مع التنوع السوري.
إن مجرد التوصل إلى اتفاق بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي يعد بحد ذاته إنجازاً سياسياً لافتاً، نظراً لتاريخ طويل من الخلافات الأيديولوجية والسياسية والتنافس على النفوذ. يشير هذا التقارب إلى إدراك الطرفين بأن توحيد الموقف الكردي في هذه المرحلة المفصلية هو أمر ضروري لتعظيم فرص تحقيق المطالب المشتركة في مواجهة القوى السياسية الأخرى في دمشق. يبدو أن ضرورات المرحلة السياسية وتحدياتها قد دفعت الخصوم السابقين إلى إيجاد أرضية مشتركة ترتكز على هدف استراتيجي يتمثل في تأمين مستقبل سياسي وإداري للمناطق الكردية ضمن سوريا الاتحادية.
تفكيك النموذج الفيدرالي الكردي المقترح: المبادئ والمكونات
تتجاوز الرؤية الكردية المشتركة، كما تصفها المصادر، مجرد شعار الفيدرالية لتقدم ملامح أكثر تفصيلاً لنظام الحكم المنشود، وذلك من خلال وثيقة تتضمن نحو 30 بنداً. تحليل هذه المكونات يكشف عن تصور متكامل يهدف إلى إعادة هيكلة الدولة السورية على أسس جديدة:
الحكم الذاتي الإقليمي: النقطة الجوهرية هي السماح بالحكم الذاتي للمناطق المختلفة. هذا يعني نقل صلاحيات واسعة من المركز إلى الأقاليم أو الولايات الفيدرالية.
المؤسسات الإقليمية: يستلزم الحكم الذاتي، كما يؤكد بدران جيا كُرد، وجود “مجالس تشريعية محلية وهيئات تنفيذية تدير شؤون المناطق”. وهذا يعني برلمانات وحكومات محلية بصلاحيات حقيقية.
الأمن الداخلي الإقليمي: المطالبة بـ “قوات أمن داخلي تابعة لها [للهيئات التنفيذية المحلية]” هي عنصر أساسي في أي نظام فيدرالي حقيقي، وتعكس رغبة الأكراد في الحفاظ على هياكلهم الأمنية القائمة (مثل قوى الأمن الداخلي “الأسايش”) وتأمين مناطقهم بأنفسهم.
الحفاظ على الخصوصية: التأكيد على “الحفاظ على الخصوصية الإدارية والسياسية والثقافية لكل منطقة” هو المبرر الأساسي للفيدرالية في سياق التنوع السوري. إنه يعني الاعتراف بحق المكونات المختلفة في إدارة شؤونها بما يتناسب مع ثقافتها وخصوصيتها.
الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية: المطالبة بالاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية في سوريا (إلى جانب العربية على الأرجح) هي مطلب تاريخي يعكس السعي لإنهاء عقود من الإنكار الثقافي وتحقيق المساواة اللغوية.
العدالة الاقتصادية وتوزيع الثروة: الدعوة إلى “توزيع عادل للسلطة والثروة” تشير إلى رغبة في معالجة التهميش الاقتصادي التاريخي للمناطق الكردية وضمان حصة عادلة من الموارد الوطنية، خاصة وأن مناطق شمال شرق سوريا غنية بالنفط والزراعة.
إعادة الهيكلة الإدارية: المطالبة بـ “إعادة النظر بالتقسيمات الإدارية” و”توحيد المناطق الكردية ضمن إطار فدرالي” قد تكون من أكثر النقاط حساسية، إذ قد تتضمن تغييرات في الحدود الإدارية القائمة لإنشاء إقليم كردي فيدرالي متصل جغرافياً، وهو ما قد يثير قضايا ديموغرافية وسياسية معقدة مع المكونات الأخرى.
معالجة المظالم التاريخية: الدعوة إلى “إلغاء المشاريع الاستثنائية التي استهدفت الأكراد” تهدف إلى إزالة آثار السياسات التمييزية السابقة (مثل الحزام العربي أو إحصاء الحسكة 1962) وتعويض المتضررين.
الإطار العام للدولة: يتم وضع كل هذه المطالب ضمن رؤية شاملة لدولة سورية “فدرالية، تعددية، ديمقراطية، برلمانية”. هذا يؤكد، مرة أخرى، على أن الهدف المعلن ليس الانفصال، بل إعادة بناء الدولة السورية على أسس تضمن المشاركة والتنوع واللامركزية ضمن نظام ديمقراطي برلماني اتحادي.
هذه المكونات مجتمعة ترسم صورة لنظام فيدرالي متكامل يسعى لمنح الأكراد درجة عالية من الحكم الذاتي السياسي والإداري والأمني والثقافي، مع معالجة المظالم التاريخية وضمان حصة عادلة من السلطة والثروة، كل ذلك ضمن إطار دستوري سوري موحد ومُعاد تعريفه.
الدوافع والمبررات: لماذا الفيدرالية هي الحل الأمثل؟
يقدم المسؤولون الأكراد المقتبس عنهم (جيا كُرد وأوسو) مجموعة من المبررات والدوافع وراء تبني خيار الفيدرالية في هذا التوقيت وتقديمه كحل أمثل لسوريا المستقبل:
حتمية التنوع السوري: المبرر الأساسي الذي يتم تقديمه هو أن “سوريا بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب”. وانطلاقاً من هذا الواقع التعددي، يُجادل الأكراد بأن النظام المركزي الذي ساد سابقاً أثبت فشله في استيعاب هذا التنوع وأدى إلى الظلم والتهميش والصراع. وبالتالي، يُنظر إلى الفيدرالية على أنها الآلية الدستورية الأنسب لإدارة هذا التنوع والحفاظ على خصوصية كل مكون، مما يساهم في تعزيز الوحدة الوطنية على أسس صحيحة بدلاً من فرضها قسراً من المركز.
استخلاص الدروس من الأحداث الأخيرة: يُشار تحديداً إلى أحداث ما بعد سقوط الأسد كمحفز إضافي. يذكر سليمان أوسو “أحداث الساحل السوري وما شهدته من انتهاكات بحق العلويين”، و”عدم قبول الدروز بسلطة الحكومة المركزية”، و”صدور الإعلان الدستوري الأحادي الجانب” من قبل الحكومة المؤقتة. تُستخدم هذه الأحداث كأمثلة على مخاطر العودة إلى مركزية مفرطة أو هيمنة فئة على أخرى، وتُقدم كدليل على أن النموذج الفيدرالي، الذي يضمن حقوق وحكم ذاتي للأقاليم والمكونات، هو الضمانة الأفضل لتجنب تكرار مثل هذه السيناريوهات وحماية حقوق الأقليات والمناطق المختلفة.
الحفاظ على وحدة سوريا: بشكل قد يبدو متناقضاً للبعض، يقدم الأكراد الفيدرالية ليس كخطوة نحو التقسيم، بل كـ “الحل الأمثل للحفاظ على وحدة سوريا”. المنطق هنا هو أن محاولة فرض نظام مركزي صارم على مجتمع متنوع ومثقل بالانقسامات التي عمقها الصراع، قد يؤدي حتماً إلى مزيد من التوتر والمطالبة بالانفصال. بينما النظام الفيدرالي، من خلال الاعتراف بالحقوق والخصوصيات وتوزيع السلطة، يمكن أن يوفر إطاراً مرناً يسمح لجميع المكونات بالتعايش ضمن دولة موحدة ولكن غير مركزية.
تنامي القناعة بالفيدرالية (حسب الأكراد): يضيف أوسو بأن التطورات الأخيرة دفعت “العديد من السوريين للاقتناع بأن النظام الفيدرالي هو الحل الأمثل”. مدى دقة هذا الادعاء يبقى بحاجة إلى تقييم مستقل، ولكنه يعكس على الأقل رغبة كردية في تقديم مشروعهم ليس كمطلب فئوي خاص، بل كحل وطني شامل يلقى قبولاً متزايداً لدى شرائح أخرى من المجتمع السوري المتخوفة من المستقبل.
تُظهر هذه المبررات محاولة كردية لتأطير مطلب الفيدرالية ضمن خطاب وطني سوري أوسع، يركز على الوحدة في إطار التنوع، ومعالجة أسباب الصراع، واستخلاص الدروس من الماضي والحاضر القريب.
التحديات المحتملة وآفاق المستقبل
على الرغم من أهمية التوافق الكردي الداخلي ووجاهة بعض المبررات المقدمة، فإن طريق تحقيق النظام الفيدرالي في سوريا يبدو محفوفاً بالتحديات الكبيرة:
المعارضة الداخلية السورية: التحدي الأكثر مباشرة هو الرفض المعلن من قبل الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع لهذه الرؤية اللامركزية. يعكس هذا الرفض، على الأرجح، استمرار تأثير التيارات السياسية العربية التقليدية التي تنظر بعين الريبة إلى أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي وتعتبر الفيدرالية خطوة نحو تقسيم البلاد أو إضعاف الهوية العربية للدولة. سيتطلب تجاوز هذه المعارضة جهوداً دبلوماسية وتفاوضية كبيرة من الجانب الكردي، وقدرة على بناء تحالفات مع قوى سورية أخرى قد تكون مؤيدة لدرجة ما من اللامركزية. إعلان الأكراد نيتهم “طرح وجهة نظرهم ومطالبنا بكل شفافية على الحكومة المؤقتة” يشير إلى إدراكهم لضرورة الحوار، لكن فجوة المواقف تبدو واسعة.
الأبعاد الإقليمية: النص يشير بإيجاز إلى الموقف التركي الذي يرى في حزب الاتحاد الديمقراطي تهديداً أمنياً بسبب ارتباطه بحزب العمال الكردستاني. من المؤكد أن أي تحرك سوري كردي نحو فيدرالية رسمية، خاصة إذا كانت تعني حكماً ذاتياً واسعاً وقوات أمن خاصة، سيواجه بمعارضة تركية قوية قد تتخذ أشكالاً مختلفة. دول إقليمية أخرى قد يكون لها أيضاً مواقف متباينة بناءً على مصالحها وتصوراتها لمستقبل سوريا.
صعوبات التطبيق العملي: حتى لو تم التوصل إلى اتفاق سياسي على مبدأ الفيدرالية، فإن تطبيقه على أرض الواقع في بلد خارج للتو من صراع مدمر سيكون مهمة شديدة التعقيد. قضايا مثل ترسيم حدود الأقاليم الفيدرالية (خاصة في المناطق المتعددة الإثنيات)، وتوزيع الموارد الطبيعية (خاصة النفط والمياه)، وآليات التنسيق الأمني والعسكري بين المركز والأقاليم، وتعديل الدستور والقوانين، كلها تتطلب آليات تفاوض وتسوية معقدة وموارد ضخمة.
استدامة الوحدة الكردية: الاتفاق الحالي بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي هو خطوة إيجابية، لكن استمرار هذه الوحدة في مواجهة الضغوط التفاوضية والتحديات العملية ليس مضموناً. الخلافات الأيديولوجية والتاريخية قد تطفو على السطح مجدداً، خاصة إذا تباينت وجهات النظر حول التنازلات المطلوبة أو آليات التنفيذ.
خاتمة
يُمثل الإجماع الذي توصلت إليه الفصائل الكردية السورية المتنافسة على المطالبة بنظام فيدرالي في مرحلة ما بعد الأسد تطوراً سياسياً بالغ الأهمية في المشهد السوري المعقد. إنه يعكس تحولاً استراتيجياً في المقاربة الكردية، ينتقل من خطاب اللامركزية الحذر إلى المطالبة الصريحة بهيكلة الدولة على أسس اتحادية، مدفوعاً بالسياق السياسي الجديد الذي أفرزه سقوط النظام السابق وبالرغبة في ترسيخ الحكم الذاتي ومعالجة المظالم التاريخية. الرؤية الفيدرالية المقترحة، بمكوناتها التفصيلية التي تشمل الحكم الذاتي والمؤسسات المحلية والأمن الداخلي والاعتراف بالحقوق الثقافية والتوزيع العادل للسلطة والثروة، تقدم تصوراً متكاملاً لإدارة التنوع السوري ضمن دولة موحدة ولكن غير مركزية.
ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الرؤية يواجه عقبات جدية، أبرزها المعارضة الصريحة من قبل الحكومة السورية المؤقتة، والتحديات الإقليمية المحتملة، والصعوبات العملية الهائلة لتطبيق نظام فيدرالي في بلد خارج من الصراع، فضلاً عن ضرورة الحفاظ على الوحدة الكردية الداخلية.
في المحصلة، يطرح الإجماع الكردي على الفيدرالية سؤالاً جوهرياً حول مستقبل سوريا: هل ستتمكن الدولة الجديدة من بناء عقد اجتماعي يستوعب تنوعها الإثني والديني والمذهبي من خلال تبني أشكال متقدمة من اللامركزية أو الفيدرالية، أم أنها ستعود إلى نموذج مركزي قد يؤدي إلى استمرار التوترات وتجدد الصراعات؟ الإجابة على هذا السؤال ستعتمد بشكل كبير على مسار المفاوضات بين القوى الكردية والحكومة المؤقتة، وعلى قدرة جميع الأطراف السورية على تقديم التنازلات الضرورية لبناء مستقبل مشترك، وعلى التأثيرات الإقليمية والدولية التي لا يمكن إغفالها. المؤكد أن المطلب الكردي بالفيدرالية سيشكل أحد الملفات الرئيسية والحاسمة في رسم ملامح سوريا الجديدة.