في خطوة تاريخية تعكس تطلعات المملكة المغربية نحو ترسيخ سيادتها الدفاعية وتعزيز مكانتها الإقليمية، صادقت الحكومة المغربية رسميًا على تأسيس شركة متخصصة لتطوير وإدارة المناطق الصناعية الدفاعية. هذا القرار، الذي جاء متماشيًا مع التوجيهات الملكية السامية ومقتضيات القانون 10.20 المتعلق بالصناعات الدفاعية، يمثل نقطة تحول مفصلية في استراتيجية المغرب لبناء قاعدة صناعية عسكرية وطنية قادرة على تلبية الاحتياجات المحلية وجذب الاستثمارات الدولية.
البعد الاستراتيجي والتطلعات السيادية.
لطالما كان السعي نحو الاكتفاء الذاتي في مجال الدفاع هدفًا محوريًا للعديد من الدول الساعية لتعزيز أمنها القومي وتقليل تبعيتها للخارج. وفي هذا السياق، يأتي تأسيس “شركة تدبير المناطق الصناعية الدفاعية” ليعكس إرادة المغرب الراسخة في الانتقال من مجرد مستورد للمعدات العسكرية إلى فاعل رئيسي في سلسلة إنتاجها. تهدف هذه الخطوة إلى بناء قدرات إنتاجية سيادية في التكنولوجيا العسكرية، وهو ما يتوافق مع التوجهات العالمية الحديثة التي تشهد تزايدًا في سعي الدول نحو توطين صناعاتها الدفاعية، مدفوعة بتحديات جيوسياسية متغيرة وضرورات اقتصادية تفرضها متطلبات الأمن القومي.
وتشير التقارير المتخصصة إلى أن طموح المغرب لا يقتصر على تلبية احتياجاته الدفاعية فحسب، بل يمتد ليشمل التحول إلى قوة إقليمية قادرة على تصدير التكنولوجيا والمعدات العسكرية، خاصة في مجالات الطائرات المسيرة والرادارات، وذلك في ظل تنامي الطلب العالمي على هذه التقنيات. يُذكر في هذا السياق تقرير لوكالة الأناضول بعنوان: “رغبة بتحوله إلى قوة إقليمية.. المغرب يؤسس لصناعات دفاعية”، وهو ما يعكس جدية هذا التوجه والطموح. هذا التوجه الطموح يتطلب تكاليف مالية ضخمة وكفاءات بشرية متخصصة، وهو ما يعمل المغرب على توفيره من خلال بيئة قانونية واستثمارية محفزة تشجع على الابتكار والاستثمار طويل الأمد.
جذب الاستثمارات الدولية وتعزيز الشراكات.
يُعد جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة رافعة أساسية لتحقيق أهداف المغرب في مجال الصناعة الدفاعية. وقد بدأت المملكة بالفعل في استقطاب اهتمام الشركات الدولية الرائدة في هذا القطاع، مما يعزز من فرص النجاح والتقدم السريع. فبالإضافة إلى مشروع مجموعة تاتا الهندية لإنتاج المركبات القتالية البرية، هناك شراكات أخرى قيد التنفيذ أو التخطيط، مثل التعاون مع شركة لوكهيد مارتن لصيانة وتحديث طائرات F-16 وC-130 محليًا، بالإضافة إلى تزايد التعاون مع تركيا في مجال الأنظمة الإلكترونية وتصنيع الطائرات المسيرة، لا سيما مع إعلان شركة “بايكار” التركية عن خطط لافتتاح مصنع إنتاج وصيانة في المغرب، بحسب تقرير منشور في موقع MEO بعنوان: “المغرب يُنشئ شركة لتسريع توطين الصناعات الدفاعية”.
تستفيد المملكة في هذا الصدد من موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يجعل منها بوابة تجارية وعسكرية لأفريقيا وأوروبا في آنٍ واحد، وهو ما يعزز جاذبيتها كمركز للاستثمار الدولي في مجال الصناعات العسكرية. وتتضمن الاستراتيجية المغربية أيضًا زيادة ميزانية الدفاع بشكل ملحوظ، وتطوير برامج البحث العلمي، والتعاون مع الجامعات المحلية والدولية، بالإضافة إلى عقد شراكات استراتيجية مع شركات عالمية لتعزيز القدرات الدفاعية وتحقيق الاستقلالية التكنولوجية المنشودة. وقد أشار تقرير لموقع Farmonaut إلى أن المغرب يتبنى استراتيجية إغراء ضريبي وجاذبة للاستثمار الخارجي من أجل تسريع عملية توطين الصناعات الدفاعية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي.
بناء القدرات وتوطين التكنولوجيا
إن تأسيس هذه المناطق الصناعية لا يمثل مجرد إنجاز إداري أو تنظيمي، بل هو ترجمة عملية لرؤية وطنية شاملة تهدف إلى توطين التكنولوجيا والمعرفة في قطاع حيوي ومصيري كالصناعات الدفاعية. ومن المقرر أن تحتضن هذه المناطق أنشطة تصنيع وخدمات مرتبطة بإنتاج الأسلحة والذخيرة والمعدات الدفاعية والأمنية، بما في ذلك الصيانة والتطوير وابتكار الأنظمة الحديثة، وهو ما سيسهم في خلق فرص عمل متخصصة ونقل الخبرات التقنية إلى الكفاءات الوطنية، والرفع من تنافسية العنصر البشري المغربي.
ويجدر بالذكر أن نجاح المغرب في توطين صناعة السيارات والطيران، حيث تستضيف المملكة أكثر من 145 شركة في قطاع صناعة الطائرات وتُصدّر بقيمة 2.1 مليار دولار سنويًا، يشكل سابقة إيجابية ودروسًا مستفادة يمكن تطبيقها واستنساخها في قطاع الدفاع. وقد ورد في تقرير لاقتصاد الشرق بعنوان: “المغرب يسعى لتوطين صناعة الدفاع على غرار تجربة السيارات والطيران”، أن هذا التراكم الصناعي يمنح المملكة أرضية صلبة للانطلاق في المجال الدفاعي بثقة واستباقية.
التحديات والآفاق المستقبلية.
وعلى الرغم من الطموح الكبير والخطوات الملموسة التي قطعها المغرب، فإن مسيرة توطين الصناعات الدفاعية لا تخلو من تحديات حقيقية. فمثل هذه المشاريع تتطلب استثمارات ضخمة وطويلة الأمد في البنية التحتية والبحث والتطوير، بالإضافة إلى إرساء منظومة وطنية متكاملة للابتكار الصناعي. كما يواجه المغرب، كغيره من الدول الناشئة في هذا المجال، ما يمكن تسميته بـ”المقاومة غير المعلنة” من قبل بعض الدول والشركات الكبرى المصنعة للأسلحة، والتي تسعى للحفاظ على حصتها التقليدية في السوق العالمي، وتتحفظ على نقل التكنولوجيا والمهارات المتقدمة.
ومع ذلك، فإن التزام المغرب بالتعاون مع شركائه الدوليين، خاصة مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، يعزز من فرص نجاح هذه المبادرة الطموحة. وتعمل المملكة على تعزيز قابلية التشغيل البيني (interoperability) مع هذه القوى الكبرى، مما يضمن استمرارية الدعم التقني والتدريب اللازم لتطوير قدرات دفاعية حديثة وفعالة. وقد أشار تقرير نشره موقع i24NEWS بعنوان: “المغرب يخطط لتعزيز الأسطول العسكري البحري لمواجهة التهديدات الأمنية”، إلى أن المملكة تواصل بشكل منهجي تطوير قدراتها الدفاعية البحرية والجوية والبرية، ضمن استراتيجية متكاملة تشمل كل الأبعاد.
في الختام، يجسد تأسيس المناطق الصناعية الدفاعية في المغرب رؤية استراتيجية بعيدة المدى تتجاوز البعد العسكري الضيق، لتصبح جزءًا من مشروع وطني شامل للتنمية الصناعية والتكنولوجية المستدامة. إنها رؤية تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتعزيز السيادة الوطنية، والتموقع كلاعب إقليمي فاعل في قطاع يُعد من أكثر القطاعات حساسية واستراتيجية على مستوى العالم.
ومع مواصلة جذب الاستثمارات، وتطوير الكفاءات، وتعميق الشراكات الدولية، يبدو المغرب على أعتاب مرحلة جديدة في مسيرته التنموية والصناعية، حيث تتحول المملكة من مجرد مستهلك للتكنولوجيا الدفاعية إلى مركز إقليمي رائد في إنتاجها وتطويرها وتصديرها.