في جوهر فلسفة التشريع الجنائي، تتجلى العدالة كغاية وهدف، لا مجرد وسيلة أو أداة. وبناءً على هذا المفهوم، وضعت المنظومة القانونية السورية، عبر تشريعاتها الأساسية، إطارًا قانونيًا دقيقًا يوازن بين حق المجتمع في العقاب وحق الفرد في الجبر والقصاص. يستند هذا الإطار إلى مبدأ الفصل الجوهري بين دعوى الحق العام ودعوى الحق الشخصي، وهو فصل يُبرز أهميته القصوى في جرائم الدم التي تمس كيان الإنسان وحرمة حياته.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليل قانوني متكامل لهذا المبدأ، متجاوزة العرض النظري نحو تأصيل الحجج في مصادرها التشريعية والقضائية. سنستند مباشرة إلى نصوص الدستور السوري النافذ لعام 2012، وقانون العقوبات العام رقم 148 لعام 1949 وتعديلاته، وقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 112 لعام 1950، إضافة إلى المبادئ الراسخة في اجتهادات محكمة النقض السورية، لإثبات أن “حق ولي الدم” هو حق أصيل، محصّن دستورياً وتشريعياً، ويقع خارج نطاق صلاحيات العفو الممنوحة لرئيس السلطة التنفيذية.
أولًا: الإطار الدستوري المنظِّم لسلطة العفو
يضع الدستور، باعتباره القانون الأسمى في الدولة، الحدود العامة للصلاحيات والقيود. في سوريا، يُميز دستور عام 2012 بين نوعين من العفو وفقًا لمصدر السلطة:
العفو العام: يُصدر بقانون عن السلطة التشريعية (مجلس الشعب) وفقًا للمادة 75 من الدستور، ويقوم رئيس الجمهورية بإعلانه ونشره. كونه صادرًا بقانون، فهو يحدد الجرائم المشمولة به بشكل عام ومجرد.
العفو الخاص: صلاحية مباشرة لرئيس الجمهورية، إذ تنص المادة 107 من دستور الجمهورية العربية السورية لعام 2012 بوضوح على أن: “لرئيس الجمهورية أن يصدر عفواً خاصاً أو يخفض العقوبة”.
هذا التحديد الدستوري يؤكد أن سلطة العفو الخاص، رغم كونها مباشرة، ليست مطلقة، بل تمارس وفقًا للقوانين التي تحدد نطاقها وحدودها، وهو ما يقودنا إلى قانون العقوبات.
ثانيًا: القيود التشريعية القاطعة في قانون العقوبات
يُفصّل قانون العقوبات العام (رقم 148 لعام 1949) أثر العفو بنوعيه، واضعًا قيودًا صارمة، خاصة فيما يتعلق بالحقوق الشخصية:
العفو العام: تنص المادة 50 على أن أثره ينحصر في الشق العام، حيث
“يزيل.. . حالة الإجرام من أساسها.. . ويسقط كل عقوبة أصلية كانت أم فرعية”.
لكنها تستدرك فورًا بالقيد الجوهري:
“ولكنه لا يمنع من الحكم للمدعي الشخصي بالالتزامات المدنية ولا من إنفاذ الحكم الصادر بها”،
هذا يعني أن الحـــــق الشخصــــــــي يبقى خارج نطــــــاق العفــــــــــو العام.
العفو الخاص: توضح المادة 51 أن العفو الخاص “يسقط العقوبة المحكوم بها كليًا أو جزئيًا أو يبدلها بعقوبة أخف”. لكنها تضيف القيد الحاسم: “… ولا يكون لغير المجني عليه أو لغير ورثته أنفسهم حق العفو”، مما يؤكد أن العفو الرئاسي ينصبّ على عقوبة الحق العام فقط، أما العفو في الحق الشخصي فهو حق حصري لولي الدم.
ثالثًا: الآلية الإجرائية لحماية الحق الشخصي
لم يقتصر المشرّع على تقرير هذه الحقوق نظريًا، بل أوجد لها آلية إجرائية لضمان حمايتها ضمن قانون أصول المحاكمات الجزائية (رقم 112 لعام 1950):
تمنح المادة 4 المتضرر حقًا أصيلاً في “إقامة دعوى الحق الشخصي بالتعويض”.
توضح المادة 5 إمكانية إقامة هذه الدعوى تبعًا لدعوى الحق العام أمام القضاء الجزائي، أو بشكل مستقل أمام القضاء المدني.
رابعًا: ترسيخ المبدأ في الاجتهاد القضائي
استقرت أحكام محكمة النقض السورية على الفصل التام بين الحقين، حيث أكدت في العديد من قراراتها المبدئية أن:
“العفو الخاص الصادر عن رئيس الجمهورية يقتصر أثره على إسقاط العقوبة الجزائية (الحق العام)، ولا يمتد بأي حال من الأحوال إلى الالتزامات المدنية المحكوم بها للمدعي الشخصي، والتي تبقى واجبة النفاذ ما لم يتنازل عنها صاحب الحق بنفسه.”
خلاصة تحليلية وتداعياتها
بناءً على التأصيل الدستوري والتشريعي والقضائي، نخلص إلى أن صلاحية رئيس الجمهورية في إصدار العفو الخاص عن جريمة قتل تقتصر على إسقاط العقوبة الجزائية، دون المساس بحق ولي الدم في القصاص أو التعويض.
وبذلك، فإن أي تسوية سياسية أو صفقة تشمل شخصيات متورطة في جرائم قتل، لا يمكن أن تنتج أثرًا قانونيًا فيما يتعلق بحقوق الضحايا، كما أن منح الحصانة لهؤلاء يشكل تجاوزًا غير مشروع لحق أصيل كرّسه الدستور والقانون.
إن بناء دولة القانون لا يستقيم إلا باحترام الحقوق، وأقدسها الحق في الحياة، فالعدالة الحقيقية تبدأ من الاعتراف بأن دم الإنسان ليس سلعة في سوق السياسة، وأن حق ولي الدم خط أحمر لا يمكن تجاوزه، فهو أمانة في عنق القضاء، ومسؤولية تاريخية أمام المجتمع.
ميسرة بكور
مدير المركز العربي الأوروبي للدراسات