تحليل استراتيجي: حوار الردع الأخير بين طهران وتل أبيب
قراءة في قواعد الاشتباك الجديدة على عتبة التحول النووي
في غرف القرار المغلقة، من واشنطن إلى تل أبيب وطهران، لم يعد الحديث يدور حول احتمالات التصعيد، بل حول توقيته وشكله. فبينما لا يزال همس الدبلوماسيين يُسمع في مسقط، فإن صوت المحركات العسكرية الإسرائيلية بدأ يعلو، وفي منشآت إيران المحصّنة تحت الأرض، تدور أجهزة الطرد المركزي بوتيرة أسرع من أي وقت مضى. ما نشهده ليس مجرد أزمة دبلوماسية، بل هو الفصل الأخير في حوار الردع المتبادل، حوار تُكتب فصوله بلغة التهديدات المباشرة وحسابات “وقت الاختراق” النووي.
لنكن واضحين: التحليل التقليدي الذي يضع “الدبلوماسية” في مواجهة “الحل العسكري” لم يعد كافياً لفهم المشهد. الواقع أكثر تعقيداً وتشابكاً، أشبه برقعة شطرنج ثلاثية الأبعاد، حيث كل خطوة محسوبة للتأثير على جبهتين في آن واحد: جبهة التفاوض، وجبهة الاستعداد للمواجهة.
سيكولوجية القرار الإسرائيلي: عندما يصبح “الخيار المستحيل” ضرورياً
الحسابات الإسرائيلية تجاوزت مرحلة القلق لتدخل مرحلة “الحتمية الاستراتيجية”. المحرك الأساسي ليس فقط تقارير الوكالة الدولية، بل هو قناعة راسخة بأن “عقيدة الضاحية” – أي القدرة على فرض ردع ساحق – تتآكل أمام برنامج نووي إيراني على وشك التحول إلى حقيقة لا رجعة فيها.
ما وراء “زمن الاختراق”: القضية لم تعد مجرد حساب عدد الأسابيع التي تحتاجها إيران لصنع قنبلة. السؤال الأعمق في تل أبيب هو: “ماذا بعد؟”. كيف سيبدو الشرق الأوسط الذي تمتلك فيه إيران، بشكل مباشر أو غير مباشر، مظلة نووية؟ إنه يعني تحييد التفوق العسكري الإسرائيلي التقليدي، ومنح جرأة غير مسبوقة لشبكة وكلاء إيران، من حزب الله إلى الحوثيين. هذا هو التهديد الوجودي الحقيقي الذي يدفع صانع القرار الإسرائيلي للتفكير في خيار كان يُعتبر سابقاً “الملاذ الأخير”.
نافذة الفرصة الآخذة بالانغلاق: تدرك إسرائيل أن قدرتها على تنفيذ ضربة فعّالة ليست أبدية. مع كل يوم، تزداد المنشآت الإيرانية تحصيناً، وتتطور دفاعاتها الجوية. يضاف إلى ذلك عامل “أكتوبر 2025” الذي يمثل نهاية صلاحية آلية العقوبات الأممية (Snapback). بالنسبة للمخطط العسكري الإسرائيلي، هذه العوامل مجتمعة ترسم نافذة زمنية تضيق بسرعة، مما يضفي على خيار الضربة طابع الإلحاح. إن التلويح بالضربة الآن ليس مجرد مناورة تفاوضية، بل هو استعراض جاد للنية أمام عدو وحليف (أمريكا) على حد سواء.
فلسفة الردع الإيراني: بناء “حصن الصمود النووي”
على الجانب الآخر، فإن الاستراتيجية الإيرانية ليست مجرد رد فعل. إنها سياسة مدروسة ومصممة بدقة لتحقيق هدفين: تحييد الضغط الاقتصادي، وبناء قدرة ردع ذاتية تجعل النظام في مأمن من أي محاولة خارجية لتغييره.
البرنامج النووي كـ “بوليصة تأمين”: لقد تعلمت طهران من مصير العراق وليبيا. الدرس واضح: لا شيء يحمي سيادة نظام ما في وجه القوى الكبرى أكثر من امتلاك قدرة نووية رادعة. لذلك، فإن كل خطوة تصعيدية – من رفع نسبة التخصيب إلى الإعلان عن مواقع جديدة – هي رسالة مفادها أن البرنامج النووي ليس ورقة مساومة يمكن التنازل عنها، بل هو “بوليصة تأمين” على بقاء الجمهورية الإسلامية.
لعبة عض الأصابع المحسوبة: إيران تتقن “لعبة حافة الهاوية”. هي تدرك تماماً قلق واشنطن وأوروبا من اندلاع حرب إقليمية جديدة ستؤدي إلى صدمة في أسواق الطاقة العالمية. ومن خلال التصعيد المدروس، ترفع إيران تكلفة عدم التوصل إلى اتفاق، وتضع الكرة في ملعب الغرب: إما القبول بشروطها لرفع العقوبات، أو مواجهة العواقب الاقتصادية والأمنية للتصعيد. التهديد بالانسحاب من معاهدة عدم الانتشار (NPT) هو بمثابة “الخيار النووي الدبلوماسي” الذي تحتفظ به كورقة ضغط قصوى.
السيناريوهات المتوقعة: ما وراء الحرب والسلام
المسارات المستقبلية ليست مجرد خيارين. إنها احتمالات متداخلة، حيث قد يؤدي أحدها إلى الآخر في تسلسل يصعب التنبؤ به.
سراب الحل الدبلوماسي :
قد تنجح مفاوضات مسقط في إنتاج “اتفاق مؤقت” أو “تفاهم” يشتري بعض الوقت. إيران تجمد بعض أنشطتها الأكثر إثارة للقلق مقابل تخفيف محدود للعقوبات. التوقع: هذا الحل، إن حدث، سيكون هشاً للغاية. سيعتبره المتشددون في إيران تنازلاً مهيناً، وستراه إسرائيل “خداعاً استراتيجياً” يسمح لإيران بالتقاط أنفاسها. هذا المسار يؤجل المواجهة، لكنه لا يلغيها، بل قد يجعلها أكثر عنفاً عندما تنهار الصفقة حتماً.
منطق الضربة الجراحية :
إذا وصلت إسرائيل إلى قناعة بأن الدبلوماسية لن تمنع إيران من عبور العتبة النووية، فإن منطق الضربة الوقائية سيفرض نفسه. التوقع: الضربة لن تكون بداية حرب شاملة بالضرورة، بل ستكون فصلاً دموياً في حرب الظل المستمرة. سترد إيران، لكن ردها سيكون محسوباً لتجنب مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. نتوقع رداً متعدد الأوجه: إطلاق صواريخ على أهداف عسكرية إسرائيلية، وتنشيط الجبهة اللبنانية عبر حزب الله، وتصعيد الهجمات على الملاحة في البحر الأحمر والخليج، وحرب سيبرانية واسعة النطاق. ستدخل المنطقة في دوامة من العنف المتقطع والمستمر، “صراع منخفض الحدة” ولكنه شديد التدمير للاستقرار والاقتصاد.
شرارة الفوضى :
هذا هو السيناريو الأخطر، حيث ينهار منطق الردع المحسوب. التوقع: خطأ واحد في التقدير يمكن أن يشعل المنطقة. قد تكون هذه الشرارة ضربة إسرائيلية تخلف عدداً كبيراً من القتلى من العلماء الإيرانيين، مما يستدعي رداً إيرانياً غير متناسب للحفاظ على الهيبة. أو قد يكون الرد الإيراني الأول أكثر إيلاماً مما توقعته إسرائيل، فيستدعي رداً إسرائيلياً ثانياً أوسع نطاقاً. هنا، يتحول الصراع من “لعبة شطرنج” إلى “كرة ثلج” متدحرجة، تجر الولايات المتحدة ودول الخليج إلى مواجهة لا يريدها أحد، ولكن لم يعد بإمكان أحد إيقافها.
خلاصة: لحظة الحقيقة
إن ما يجمع كل هذه المسارات هو إدراك جميع الأطراف أن الوضع الراهن لم يعد مستداماً. لقد انتهى وقت المناورات، وحانت لحظة اتخاذ قرارات مصيرية ستكون لها أصداء لعقود قادمة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن ليس هل ستتغير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، بل متى وكيف. إن جولة المفاوضات القادمة ليست مجرد محاولة لإحياء اتفاق، بل هي ربما الفرصة الأخيرة لاختيار طبيعة هذا التغيير: هل سيكون عبر تسوية مؤلمة ومؤقتة، أم عبر مواجهة ستعيد رسم الخرائط الجيوسياسية للمنطقة بالنار.